مثلما يقال «إن المكتوب يقرأ من عنوانه»، كذلك يمكن تقويم المؤتمر العاشر لحزب البعث الحاكم في سوريا من التوصيات العديدة التي اتخذها، والتي وإن كانت تؤسس لجديد ما، فإنها تؤسس لإصلاحات جزئية وشكلية لا تؤثر على موقع النظام ودوره السياسي وتالياً لا تمس جوهر وأسس السيطرة القديمة التي تستند إلى احتكار السلطة ووصاية الحزب الواحد على المجتمع والدولة، مما يكرس فعلياً أسباب الأزمة القائمة ويجدد إعادة إنتاجها وإدارتها بصورة ربما تغدو مع الزمن أكثر سوءاً وتفاقماً!!.

لقد نجح أهل الحكم في الهرب من معالجة أمراض المجتمع المزمنة نحو حل مشكلات نظامهم الخاصة ليكتفوا بخطوات صغيرة ومحسوبة جيداً تشبه إجراءات تجميلية لا تهدد عناصر السيطرة السياسية بل يراد منها التحرر من بعض الأعباء الاقتصادية وتجديد قوى الحزب ودوره، وكذلك تفعيل أداء مؤسسات الدولة المترهلة، وربما تحسين صورة سوريا عالمياً بما يخفف حدة الاحتقان الاجتماعي وحالة الاستياء المتعاظمة، ويمكنهم من التكيف مع الضغوط الخارجية وحال العزلة التي يتعرضون لها.. فكيف حقق المؤتمرون هذه المهمة المركبة؟!..

أولاً، التأكيد المسبق على أن لا مكان في المؤتمر لإعادة النظر أو تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري التي تمنح حزب البعث حق قيادة الدولة والمجتمع مدعماً بما شهدته المؤتمرات الفرعية من أساليب شحن بأن هذا التعديل هو مطلب «استعماري» غايته زرع الفوضى والنيل من دور سوريا القومي ومواقفها الوطنية، كذا !! وأن التخلي عن الدور الريادي هو خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، والاستمرار في حرمان القوى السياسية الأخرى من حقها الطبيعي في المشاركة وفي مبدأ تداول السلطة، وتكريس فعل الوصاية والسيطرة الأحادية.

ولا يغير من هذه الحقيقة تقديم بعض الإشارات التي تقول إن المرحلة القادمة سوف تشهد تخفيف سيطرة الحزب الحاكم ليكتفي بدوره مشرفا وموجها، بما في ذلك وعود بضرورة اعتماد معيار الكفاءة العلمية لا الولاء والانتماء الحزبي كما درجت العادة في «الاختيار والتعيين» في مواقع المسؤولية السياسية والإدارية.

فالسوريون يعرفون جيداً المسافة الكبيرة التي تفصل الأقوال والوعود عن الأفعال والتطبيق، وأيضاً خبروا جيداً النتائج الضحلة خلال أكثر من عامين لقرار القيادة القطرية رقم 408 القاضي بالحد من تدخل حزب البعث في عمل مؤسسات الدولة وإداراتها، ولمسوا لمس اليد قوة وأولوية التمييز الفج بين البعثي وغير البعثي في مختلف أنشطة العمل والحياة.

ثم لنفترض جدلاً أنه جرى بالفعل التقليل من تحكم حزب البعث في الدولة وشهدنا تطعيم بعض مؤسساتها وتلوينها برموز وشخصيات علمية أو مهنية أو إدارية من غير البعثيين، ألا يشكل استمرار هذه المادة دستورياً قوة كامنة لحماية شروط السيطرة الأحادية، يعززها تأكيد المؤتمر عضوية "منصبي" رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشعب في القيادة القطرية، والتمسك بمفاتيح السيطرة على المؤسستين التنفيذية والتشريعية، فضلاً عن ديمومة البنود والمواد القانونية التي تعطي للبعثيين أكثر من نصف المقاعد في أي هيئة أو مجلس أو إدارة، فأي معنى عندها لعبارة تخفيف تدخل الحزب في الدولة، ألا يبدو جلياً أن ما كرسه المؤتمر ليس إلا استمرار تثبيت هيمنة الحزب الواحد وحقه ليس في السيطرة على الدولة فحسب بل حيازتها والتصرف في مقدراتها مع بعض المساحيق التجميلية!!.

ثانياً، إصرار النخبة الحاكمة على إبقاء حالة الطوارئ سارية المفعول لكن مع حصر استخدامها في القضايا التي تمس أمن الوطن، وهي توصية تشكل في حد ذاتها مخالفة دستورية، إذ يحدد الدستور السوري شرطين اثنين لإعلان حالة الطوارئ، وهما الحرب أو الكوارث.

وما دام مجتمعنا موضوعياً خارج حالة الحرب منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وخاض مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وما دمنا نبتهل جميعنا كي تبقى بلادنا بمنأى أبداً عن الكوارث والزلازل، فأي معنى لاستمرار حالة الطوارئ إلا دورها في ضبط الداخل وضمان السيطرة التامة عليه؟!

لماذا لا يحق لنا كسوريين أن نعيش حياتنا في ظل قوانين عادية وطبيعية؟ لماذا تغدو حالة الطوارئ عندنا قاعدة ثابتة وراسخة ولا يجري استخدامها فقط عندما تستدعي الحاجة إليها كما يعنيه اسمها بصفتها حالة طارئة أو استثنائية؟! ثم ماذا يعني ربط تطبيقها بالحالات التي تمس أمن الوطن؟ من الذي يحدد أمن الوطن وهل ثمة مرجعية غير السلطة نفسها في تحديد ماهية المخاطر التي تمس أمن البلاد؟!

ودون شك نعرف جميعنا أن مثل هذه العبارة هي عبارة مبهمة وعامة ومطاطة يمكن شدها وتوظيفها بما يخدم حاجات النخبة الحاكمة لتصفية خصومها ومنتقديها، وليس عجباً أن تسمع في مستقبل قريب أن بعض دعاة الحرية والديمقراطية أحيلوا إلى المحاكم العرفية والاستثنائية بذريعة المساس بأمن الوطن!!

يتفق كثير من المراقبين على أن توصية المؤتمر المتعلقة «بتنظيم حضور قوانين الطوارئ والأحكام العرفية»وربطها مع ما سمي "تحديد علاقة الأجهزة الأمنية مع المواطن" ليس الغرض منها صياغة آليات جديدة في علاقة السلطة مع المجتمع، بل لتخفيف الضغوط الخارجية التي لا تزال تنتقد إدمان السلطة السورية على إدارة الحياة الداخلية وفق قوانين الاستثناء، وأيضاً امتصاص الأصوات الكثيرة التي ارتفعت من مختلف القطاعات الاجتماعية والثقافية ضد استمرار حالة الطوارئ!!

ونسأل في هذا الإهاب، كيف يمكن أن تفسر الاعتقالات التي تجري اليوم لبعض النشطاء السياسيين والحقوقيين؛ نزار رستناوي وعلي العبد الله من نشطاء المجتمع المدني، ومحمد رعدون رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومن ثم أعضاء مجلس إدارة منتدى الأتاسي للحوار، ثم إطلاق سراحهم بعد أيام، وأخيراً وربما ليس آخراً الناشطين محمد ديب وحبيب صالح؟! وهل يمكن أن ندرجها تحت عنوان الحد من تدخل الأجهزة الأمنية في حياة الموطن السوري؟!

ثالثاً، إقرار مبدأ صوري للتعددية السياسية يفيض بالاشتراطات والتحذيرات سوف يوضع بعهدة لجنة تشكل لاحقاً لإنجاز دراسة حول مشروع قانون للأحزاب والجمعيات يناسب خصوصية المجتمع السوري، لكن يبدو أنه سوف يرسم «بخطوط واضحة وقاطعة» الحدود التي تبقي إدارة الصراعات الفكرية والخلافات السياسية تحت سيطرة السلطة المباشرة، مع أفضلية فتح الباب على مصراعيه أمام تطوير فكرة الجبهة الوطنية التقدمية والعمل على توسيعها وتفعيل دورها بصفتها عند أولي الأمر النموذج الأنجع من أشكال التعددية واحترام الرأي الآخر!!

يعزز هذا الخيار رفدها مؤخراً بأحد أجنحة الحزب القومي الاجتماعي السوري وما يشاع عن مفاوضات تجري مع قوى سياسية أخرى تتأهب للانضمام إلى صفوفها.

نعم، في التوصية المتعلقة بالتعددية السياسية ثمة اشتراطات شبه تعجيزية للموافقة على وجود هذا الحزب السياسي أو ذاك، بأن لا يقوم على أسس طائفية أو قومية أو مذهبية وأن لا تكون له امتدادات إقليمية أو عالمية إلخ، مما يرجح احتمال التشريع لوجود أحزاب جديدة يجب أن تشبه تماماً أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، لكن خارج إطار الجبهة!!

ثم كيف يجوز وضع هذه الاشتراطات على الآخرين ولا تطبق على أحزاب الجبهة ذاتها وأغلبها يقوم على أساس أيديولوجي، ولمعظمها امتدادات إقليمية كالأحزاب القومية العربية، أو أممية كالأحزاب الشيوعية.

إن توصل المؤتمرين بعد مماطلة وتسويف إلى هذا النموذج من التعددية الشكلية يمنح حزب البعث حق الوصاية على الحقل السياسي ورفض أي حزب يمكن أن يستشعر منه خطراً، في حين يفترض في من يتطلع جدياً إلى الإقرار بتعددية حقيقية أن لا يضع أي اشتراط على أصحاب برنامج سياسي إلا إيمانهم بالعملية الديمقراطية وأشكال النضال السلمي والعلني، ويترك للناس الحق في إبداء موقفهم من هذه المجموعة السياسية أو تلك، رفضها ونبذها أو قبولها ودعمها.

رابعاً، إعادة إنتاج مقولة أولوية الإصلاح الاقتصادي والإداري وتثبيت كتفي الإصلاح السياسي، على الرغم مما أفضت إليه تجربة السنوات السابقة والتفرد بحركة الإصلاحات الاقتصادية والإدارية من نتائج سلبية فاقمت المشكلة ولم تخفف منها.

ومع الاعتراف بأن ثمة أهمية خاصة وملحة لمعالجة الركود الاقتصادي المزمن، وضمان فرص عمل لجيش من العاطلين، وتحسين الوضع المعيشي للغالبية الساحقة من المواطنين السوريين، وأيضاً محاربة الفساد ومعالجة مظاهره السلبية البغيضة، فالطريق إلى معالجة هذه المشكلات ستكون مسدودة طالما نأت عن الممر السياسي.

فكيف نرنو إلى إصلاح اقتصادي وإلى معالجة ظاهرة البطالة وإيجاد فرص عمل لعشرات الألوف من خريجي الجامعات والمعاهد إذا لم يُصر إلى تنشيط حركة الإنتاج والاستثمار, وإذا لم يُركن إلى حقيقة تقول إن مناخ الحرية والتعددية هو المناخ الوحيد القادر على تشجيع الاستثمارات المحلية وجذب رؤوس الأموال العربية والأجنبية؟! فأي مصلحة للمستثمرين في توظيف أموالهم وإقامة المشروعات الصناعية والزراعية في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية وبدون أن يُشاع جو من الاطمئنان إلى صحة المناخ السياسي وإلى المقومات التشريعية والعملية التي تكفل دولة المؤسسات وسيادة القانون؟!

وأيضاً هل يستقيم تحسين المستوى المعيشي للفئات الشعبية مع الإصرار على تغييب دورها السياسي؟ ألا ترتبط الإصلاحات الديمقراطية في خصوصية مجتمعنا السوري ارتباطاً وثيقاً بالعدالة في توزيع الثروة؟ أليست الطبقات المحرومة سياسياً هي كذلك محرومة اقتصادياً؟ فالنظام التسلطي لا يستأثر فقط بأشكال ممارسة الحكم وإنما أيضاً بكيفية التصرف بالملكيات العامة.

ثم ألا يرتبط بعث الحراك الاقتصادي ورفع معدلات النمو بعافية الوجه السياسي في عملية التنمية الذي يضفي على الوجوه الأخرى حيويتها وفاعليتها؟ أليس شعور الإنسان بالحرية والعدل والثقة بجدوى مشاركته في إدارة شؤونه العامة هو ما يعيد الاعتبار لدوره كمحرك رئيس لكل تقدم وتطور؟!

ثم بأي معنى يمكن الحديث عن تصحيح الأخطاء ومظاهر الخلل الإدارية المتراكمة إذا لم يسد مناخ من التعددية الفكرية والسياسية الكفيلة بخلق أجواء من المنافسة الصحية لاختيار البرنامج الأفضل وانتخاب الإنسان الأكفأ والأقدر على تحمل المسؤولية؟! وهل تمكن إزالة المثالب والثغرات التي تسم وظائف الدولة ونشاطاتها الإدارية والتنفيذية إذا لم تترافق مع فصل السلطات واستقلالها, وكف يد الأجهزة السياسية والأمنية عن التدخل في القرارات الإدارية والقضائية ؟!

وتالياً ألم يبرهن انتعاش الفساد اليوم وانتشاره بصورة أشد وطأة على قصور الأساليب الفوقية, وعلى أن معالجة هذه الظاهرة السلبية والحد من آثارها المدمرة لن يجدي نفعاً إذا لم يسد مناخ من الحرية والشفافية، وأن الأمل الوحيد في انتصار معايير الكفاءة والنزاهة على الروح الوصولية والانتهازية, هو تفعيل دور الناس في الرقابة والمحاسبة وإطلاق يد الصحافة في متابعة ونقد أي سلوك يتجاوز الصلاحيات أو يحاول تسخير المنصب العام في خدمة المنافع والامتيازات الشخصية؟!

الحقيقة أن من يدقق في التجربة العيانية السورية وخصوصية أسباب أزمتها, لا يحتاج إلى كبير عناء ليكتشف أن من العبث الرهان على نجاح أي إصلاحات إدارية أو اقتصادية إذا لم تكن مسبوقة بإجراءات سياسية تطلق دور الإنسان وتحرره من القهر والوصاية, وتفضي إلى بناء حياة جديدة تقوم على قواعد من التعددية والمشاركة.

وإن تجاهل أعضاء المؤتمر لهذه المسألة يعني أنهم لم يتعلموا شيئاً مما جرى ويجري حولهم، ويعني إصرارهم على عدم الاعتراف بالمتغيرات الإقليمية والدولية وتوظيفها في صياغة جديدة لأفكارهم وحساباتهم، وما يترتب على ذلك أيضاً من إعادة بناء مفاهيم الحزب وشعاراته.

وتالياً يفترض في حزب يرغب في أن يلعب دوراً إنقاذياً أن يقف وقفة نقدية حازمة وجدية من المرحلة السابقة وتحديداً من الأسباب والقواعد السياسية التي أوصلت البلاد إلى ما هي فيه، لا الاكتفاء باعتبار ما حصل مجرد «قصور أداء» و «أخطاء وعثرات» أو «إساءة بعض الفاسدين» والأهم العودة لتشغيل الأسطوانة المشروخة التي دأبت على ربط أساس الداء والبلاء بالخارج، ليتم نسف الرؤى والجهود الداعية إلى إصلاح حقيقي والتسويق لتعديلات هزيلة تحت شعار "الوطن في خطر"، الشعار الذي ملته الناس وعافته نفوسهم، والذي أعطى دائماً ويعطي اليوم المشروعية لاستمرار الاستبداد بحجة المؤامرات الخارجية.

لقد نجح أهل الحكم في الهرب من السبب الرئيس الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه وهو استمرار البنية التكوينية لهذا النوع من الأنظمة التي تقوم على إقصاء المجتمع وتغييب دوره وعلى تمركز السلطة والثروة بيد نخبة تستند إلى كتلة ضخمة من البيروقراطية المدنية والعسكرية مدعمة بمختلف أساليب القمع وأشكال العلاقات المتخلفة العصبوية والمحسوبية. وأي تشخيص غير ذلك هو تشخيص خاطئ وقاصر لمشكلاتنا وأمراضنا وسوف يقود إلى علاج خاطئ وقاصر!!.

والخلاصة أن كل من كان ينتظر جديداً على صعيد الإصلاح السياسي من المؤتمر العاشر لحزب البعث حصد بلا شك الخيبة والفشل، فلا أمل يرتجى من إصلاح وتغيير ومعالجة حقيقية لأزمات المجتمع السوري وأمراضه طالما استمرت وصاية الحزب الواحد على السياسة والمجتمع وطالما لم يُصر إلى إطلاق الحريات العامة وطالما استوطنت بؤر الفساد والولاءات العصبية المتخلفة مفاصل الدولة وحولتها إلى ملكية خاصة، وما دامت النخبة الحاكمة -وهذا هو الأهم- تبحث عن شرعيتها السياسية في شعارات وطنية وقومية وفي قوة القمع والإرهاب وليس في صياغة علاقة صحية مع المجتمع أساسها نيل ثقة الناس لما تقدمه لهم من مكاسب سياسية واقتصادية، واحترامها لحقوقهم وحرياتهم وأمانتها في توزيع عادل للثروة الوطنية ودفع عجلة التنمية الاجتماعية إلى الأمام.

مصادر
الجزيرة نت (قطر)