تسقط منطقة الشرق الأوسط بين الارهاب والانتحار، وهي تخوض معارك التغيير وسط حروب السعي وراء السلطة أو التمسك بالسلطة. هذه مرحلة انتقالية قد تطول وقد تكون في غاية البشاعة، لكنها مرحلة عابرة الى غد مختلف في المنطقة العربية. انها مرحلة القلق والخوف والاحباط مرحلة التخويف ودب الرعب والفزع عمداً. لكنها عابرة بالتأكيد. فلا عودة الى الأمس بعد الآن، لا في العراق أو في لبنان، ولا في

مصر أو في السعودية، ولا الكويت أو ايران. والسبب ليس محصوراً بالسياسات الاميركية الجيدة منها أو الفاسدة، الناجحة او الفاشلة. السبب ليس عائداً الى يقظة شعبية عارمة في كامل المنطقة، بل الى المزيج المتواضع واللقاء الذكي لعناصر داخلية واميركية وأوروبية توصلت الى الاستنتاج بأن لا عودة الى الغد مهما احتدت المعركة. فلتشد الأحزمة ولنتحدث بصراحة.

ما يحدث في لبنان من اغتيالات للشخصيات السياسية والثقافية والفكرية هو الارهاب بعينه الذي يترتب عليه عقاب دولي وليس عقاباً محلياً فقط. ما يحدث في العراق من نسف متعمد لأطفال العراق وشبابه ليس مقاومة وانما هو الارهاب الكلاسيكي. الاغتيالات الاسرائيلية للشخصيات الفلسطينية هي بدورها ارهاب، وارهاب دولة بالتأكيد، انما اعتماد الفصائل الفلسطينية العمليات الانتحارية ضد المدنيين الأبرياء سياسة «تحرير» أو وسيلة وصول الى السلطة لا ينفي عن هذه الافعال والفصائل صفة الارهاب. فاي تعمد لقتل المدنيين افراداً او جماعات على أيدي فصائل أو حكومات، أجهزة أمنية محلية أو استخبارات من دول الخارج، هو ارهاب.

الارهاب ليس جديداً على المنطقة كسياسة اعتمدتها حكومات واجهزة أمنية لتصدير «فكرها» أو وسيلة لاثبات الوجود أو كرد فعل على السياسات الأميركية ـ الاسرائيلية، أو في اطار المعارك على السلطة. الجديد النسبي هو ان كامل المنطقة العربية يرتهنها الارهاب بصورة أو بأخرى، يرتهنها الارهاب الأصولي المتطرف الذي يريد استراق السلطة من الحكم الأمني أو الاجهزة الأمنية الحكومية التي إما تحارب الأصولية المتطرفة او تتذرع بها للبقاء في السلطة. كلاهما يتعمد ارهاب الفرد والمجتمع كي لا تطل الجرأة بتغيير مرفوض. فالاخضاع هو الهدف، والارهاب وسيلة لتحقيق الاذعان. الجديد النسبي ان هناك مقاومة من نوع آخر في المنطقة العربية، مقاومة لابتزاز معنى المقاومة والحق بالمقاومة، هذا ابتزاز آت من حكومات ومن فصائل تدعي المقاومة من جهة، وهو آت من أفراد ومجموعات تائهة في الكراهية والبغض والتدمير لدرجة لا تعرف فيها سوء استغلال المقاومة الضرورية.

المقاومة في نهاية المطاف، ليست محصورة في تعبير مقاومة الاحتلال. انها حالة صحية في المجتمعات لأنها تعني مقاومة الإملاء ومقاومة الفرض ومقاومة الافتراض. مقاومة الاحتلال أمر شرعي وقانوني وحق للشعوب الواقعى تحت الاحتلال. كذلك مقاومة هيمنة دولة على دولة مجاورة عندما يتبين مرضاً خفياً في تلك العلاقة. هكذا كانت علاقة العراق بالكويت قبيل غزو العراق للكويت واحتلاله. وهكذا تبين نوعية علاقة سورية بلبنان.

البعض بين السياسيين السوريين أصيب بالدهشة لدى الانقلاب الذي أتى عليهم من عدد كبير من اللبنانيين والعرب الآخرين ممن عرف عنهم دفاعهم عن سورية لسنوات عدة شملت سنوات وجودها في لبنان. بعضهم تلقى الاندهاش بالكراهية المطلقة والتوعد، وبعضهم الآخر احتار حقاً. وهناك بالطبع من فهم تماماً أسباب المواقف الانقلابية، فيما هناك من وجد في المواقف المعلنة سبباً للقول ان لا خير بهؤلاء اللبنانيين العرب الآخرين الناقدين لسورية، اصلاً وأساساً.

اختلاف التقويم أمر طبيعي، بل هو أمر صحي طالما يشمل الاقرار ـ حتى الضمني ـ بما أدى الى الوضع اليوم الذي يهدد استقرار كل من سورية ولبنان.

فإذا أرادت القيادات السورية، الحكومية منها وغير الحكومية، ان تبعد سورية عن خطط وأجندة الذين تمنوا منذ سنوات عدة ان تتورط دمشق بما يستدعي اجراءات ضد سورية، امامها لحظة التصارح بصورة لم يسبق ان شهدتها التجربة السورية.

المحطة الاولى في الصراحة هي في الإقرار بأن لبنان هو وسيلة انقاذ سورية. لبنان هو خشبة الانقاذ والخلاص إذا اختارت القيادة السورية الانقاذ والخلاص. وللتأكيد، هذا لا يعني استخدام لبنان للتملص من الاستحقاقات على صعيد العراق وفلسطين. ما يعنيه هو انه مهما فعلت دمشق نحو العراق وفلسطين أو في اطار التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب، لن تحصل على اي مقابل ما لم تسلم بلبنان.

وهذا أول ما على القيادة السورية ان تدركه من دون ان تسمح لتضليل هنا أو «مساعدة» هناك: لبنان ورقة ثمينة لدمشق فقط إذا تم تنظيفه كلياً من اي نفوذ سوري بقرار سوري، على الصعيدين السياسي والأمني وبصورة تامة.

لا حل وسطاً لسورية في لبنان، ولا عودة الى الأمس. لا مساومات. هذا ما آلت اليه الأوضاع اليوم. هناك اجماع اميركي ـ أوروبي، وليس فقط قرار اميركي ـ فرنسي في هذا الشأن. الخيار واضح: اما تتخذ القيادة السورية قرار تنظيف لبنان كلياً من سورية واستشاراتها الاستخبارية وتبعتها الأمنية ونفوذها السياسي أو المواجهة الكاملة. قرار «التنظيف» يتطلب اجراءات عدة، منها ما يفضل ان يتخذه لبنانيون ولو أحسن رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود قراءة الأوضاع السياسية الدولية والاقليمية لأسرع بالمبادرة الى الاستقالة الآن، بعد انتهاء الانتخابات، ليكسب لنفسه مسيرة أفضل من تلك التي ستلتصق به لو التصق بالمنصب، فهو في رأي كثيرين «بضاعة مضروبة» لا بد من الاستغناء عنها من اجل تعافي لبنان.

وبأهمية تنحي الرئيس ان يأخذ هذا الرئيس معه التركة الأمنية التي اكتسبت لنفسها سمعة خدمة سورية على حساب لبنان. هذا القرار ليس واضحاً اذا كان لبنانياً او سورياً في هذ المنعطف. هناك من يعتقد ان جميع الأحداث في الساحة اللبنانية تتخذ بقرارات على أعلى المستويات السياسية. وهناك من يؤمن بأن الاجهزة الأمنية، اللبنانية والسورية، خرجت عن سيطرة القيادات السياسية، وهي تتصرف باستقلالية. كلا السيناريوين مخيف ومقلق، وكلاهما يتطلب قراراً من الرئيس السوري بشار الأسد.

الفرصة متاحة الآن لإثبات حسن النية والقرارات الصائبة والحازمة. هذه الفرصة متوافرة بعد الانتخابات البرلمانية حيث يمكن للحكومة اللبنانية الجديدة ان تقوم بعملية «التنظيف» التام لكامل الاجهزة الأمنية. فإما توافق القيادة السورية على الصفحة الجديدة للبنان بتنظيفه كلياً من اثر الاجهزة الامنية التابعة لها ومن أثر النفوذ السوري في السياسيين، أو تختار المواجهة.

خيار المواجهة، حسب التوقعات الدولية، له وجهان اساسيان: استخدام الورقة الفلسطينية في لبنان عبر تسليح الفصائل الفلسطينية الموجودة في المخيمات وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بهدف ضرب الاستقرار في لبنان واطلاق حرب أهلية فيه... وتفعيل حملة الاغتيالات للقيادات السياسية من أمثال سعد الحريري ووليد جنبلاط بهدف خلق قيادات بديلة موالية لدمشق. فدهشة دمشق ضخمة ازاء تمكن سعد الحريري من ملئ مكان والده رفيق الحريري والفراغ الذي تركه اغتياله قبل أقل من اربعة اشهر. وهي منقسمة جذرياً بين عدم التصديق وبين الانتقام، من جهته، فيما هناك من يدعو الى الاقرار بالعهد الجديد في العلاقة اللبنانية ـ السورية.

واقع الأمر ان القيادة السورية على أعلى المستويات تدرك ان لا خيار أمامها سوى اصعب الخيارات، وهو التحرك بأقصى سرعة لاثبات وبرهنة استعدادها لنقلة نوعية تتقبل وترحب بالوضع الجديد في لبنان. تدرك ان وقوع عملية اغتيال لأمثال سعد الحريري أو وليد جنبلاط على يدي كائن من كان، ستعاقب هي عليه عقاباً شديداً. تدرك ان اخطاء عدة ارتكبت، انما الاسرة الدولية تترقب الخطأ الآتي.

يفترض البعض ان الاسرة الدولية قد لا تنهض غاضبة من اغتيالات قيادات مدنية وفكرية مثل جورج حاوي وسمير قصير، لذلك ليس مستبعداً ان تقع مجموعة اغتيالات «للطبقة الوسطى»، اي الطبقة الفاعلة في صنع التغيير انما ليس على مستوى القيادات السياسية. حذار لهؤلاء من مثل هذا التفكير، فالملفات تعد على اعلى المستويات الدولية ضد المتورطين في هذا الارهاب، اذ ليس سهلاً تصنيف مجلس الأمن الدولي لهذه الافعال «جرائم ارهاب» العقاب عليها دولي وكبير.

على أي حال، ان الترقب على اهبة الفعالية للخطأ الآتي بعد ارتكاب جريمة ارهاب اخرى في لبنان تمثلت في اغتيال حاوي. ان المراقبة في أدق مراحلها للقرارات السياسية الآتية من سورية ولبنان.

وان الاستعدادت الدولية، الأوروبية وليس الفرنسية فحسب، بتوافق وتنسيق مع الادارة الاميركية، استعدادات تشمل اجراءات العزل السياسي والعقوبات الاقتصادية والعقاب العسكري باجراءات.

تفاصيل العقاب والعقوبات أبلغت الى دمشق بكل صراحة كما أبلغت اليها الاجراءات المطلوبة منها بكل التفاصيل.

الى حد ما يمكن القول ان لدى دمشق الآن «خريطة الطريق» الى كيفية ضمان استقرار سورية ولبنان وخلاص القيادة السورية من العقاب والعقوبات.

عنوان «خريطة الطريق» هو الحكمة الضرورية في مواجهة لحظة الحقيقة. فهذه لحظة الحقيقة للقيادة السورية المتمثلة بالرئيس بشار الأسد. لكنها ليست لحظة سهلة على الاطلاق. انها لحظة تاريخية لسورية وللرئيس الشاب، انها لحظة الاختيار الضروري بين السيطرة والمواجهة داخل سورية ولبنان، اسمها القيادة في وجه التقليديين أو المعارضين النخوبيين او القيادات والاجهزة الأمنية. انها مهمة انقاذ واستقرار سورية ولبنان بحكمة الخيار الصحيح لأن لا خيار في الواقع.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)