كثرت التعليقات حول علاقات تركيا الاقليمية وبخاصة بينها وبين سورية واسرائيل والاراضي الفلسطينية، وقد ظهرت هذه التعليقات بشدة بعد زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لدمشق في نهاية العام الماضي، وتكررت مشاهد التعليقات قبل ايام عندما قام اردوغان بزيارة كل من تل ابيب ورام الله.

اذ كشفت هذه التحركات عن رغبة أنقرة في الاقتراب من المنطقة ومشكلتها للقيام بدور اقليمي يتناسب مع طموحاتها الساعية الى الحركة والتأثير في الاحداث وتطوراتها، وبما يتواءم مع قدراتها السياسية والاقتصادية الصاعدة.

فقد اجتازت العلاقات السورية – التركية والاسرائيلية – التركية، محطات عدة، تشابكت ابعادها السياسية والامنية والاقتصادية، وهي شهدت تحسناً كبيراً بعد توتر بين هذه القوى الاقليمية الثلاث. ففي حين حققت سورية «الاختراق» من جانبها بزيارة الرئيس بشار الاسد الى انقرة في كانون الثاني (يناير) من عام 2004، فإن زيارة الرئيس التركي احمد نجدت سيزر لدمشق في آذار “مارس” من هذا العام، جاءت تصميماً على السير قدماً نحو التنسيق بين البلدين، خصوصاً ان هناك مصالح مشتركة وحدوداً واسعة الامتـــداد ورغبة في ازالة الاسلاك الشائكة التـــي تعترض تعاونهما، غير ان الادارة الاميركية رأت في هذا التطور بين البلدين، ما يمـــكن ان يكون مؤشراً على توجه يتعارض مع خططها في ما يتعلق بالمنطقة ككل، وفي ما يخص البعد السوري تحديداً، ولذلك جاءت زيارة اردوغان الى اسرائيل للتخفيف مــن «الحـــنق» الاميـــركي.

فمشاعر الثقة المتبادلة بين القيادات السورية والتركية بعد خصام طويل، اعتبرت سبباً اساسياً في كل ما تحقق من نجاحات اساسية في العلاقات التركية – السورية، بعدما تبين للطرفين التركي والسوري ان دمشق ليست بدمشق الماضي، كما ان انقرة لم تعد تنظر الى سورية نظرتها التقليدية السابقة، وهي لذلك سعت الى مواجهة تطوراتها الحالية والمستقبلية بالحوار والتنسيق والتعاون مع دمشق، التي ترى بدورها في تركيا متنفساً استراتيجياً لها في مجمل انفتاحاتها الاقليمية والدولية، وفي ضوء غياب التضامن العربي حول مجمل القضايا الاستراتيجية وفي مقدمها الوضع الفلسطيني ومستقبل العراق والتسوية مع اسرائيل التي اطلق فيها شمعون بيريز أخيراً مصطلح «الديموقراطية الاقتصادية» للتطبيع مع العالم العربي الذي يشتهي فتح ابوابه امام «العبقرية الاسرائيلية». ولولا هذا «الاشتهاء» لما انتهج اردوغان سياسة الحوار الوقائي مع اسرائيل.

وترتدي فكرة «الديموقراطية الاقتصادية» ابعاداً فتاكة بخطورتها حين تم اطلاقها بمناسبة زيارة زعيم اكبر التيارات الاسلامية في تركيا، للتأكد من ان اسرائيل من جهة هي بوابة واشنطن او الممر الالزامي لأنقرة للوصول الى البيت الابيض، واشترطت زيارته اسرائيل لضمان استقباله في البيت الابيض، وهي من جهة اخرى ايضاً الممر الالزامي للدخول الى الاتحاد الاوروبي، هذا الاتحاد الذي تحتفظ اسرائيل لنفسها بحق توقيت متى تريد الدخول اليه.

ولكن، ماذا يعني التنسيق الاستراتيجي بين انقرة ودمشق؟

يمكن القول ان الاتفاقات التي وقعت بين تركيا وسورية ستعزز الترابط الاقتصادي بين البلدين باعتباره وسيلة للتكامل الاقتصادي الذي يفيد من حدود مشتركة طولها نحو 900 كيلومتر تقيم فيها على الجانبين عائلات وعشائر تربطها وشائج وروابط قربى ضاربة الجذور في التاريخ العثماني، لذا كان مهماً اتفاق الجانبين على اقامة مناطق للتجارة الحرة على جانبي الحدود، كما اتفقا على استثمار الاراضي الزراعية المتاخمة للحدود بعد نزع الالغام منها، علماً ان هناك اكثر من 200 من رجل اعمال تركي في سورية وان حجم التبادل التجاري السنوي بات يساوي نحو ملياري دولار.

ان بعض وجهات نظر تركيا حول المنطقة تلفت الانتباه الى انها تتوافق مع الاتحاد الاوروبي اكثر مما تتوافق مع الولايات المتحدة، وهو ما يجعل من تركيا الحجر الاساس في استراتيجية اوروبا التي تهدف الى تقديم العلاج للشرق الاوسط. وفي هذا الاطار يرى كثر في انقرة في احتمالات التقارب الاميركي مع شيعة العراق خطراً جدياً على الامن الوطني والقومي لتركيا وبخاصة مع استمرار الاحاديث عن السيناريوات الاميركية في ما يتعلق بإقامة دولة كردية مستقلة في العراق ولاحقاً في المنطقة. وكان هذا الرأي لدى بعض الاوساط السياسية والعسكرية التركية كافياً لدفع انقرة الى التفكير بأسلوب جديد في ما يتعلق بحظ تركيا في كسب رضى واشنطن من جديد قبل ان تتخذ الادارة الاميركية قراراتها الاستراتيجية في اختيار حلفائها الجدد في منطقة الشرق الاوسط وبالطبع الى جانب اسرائيل «وكردستان» العراق التي يتخوف الكثيرون من ان تكون اسرائيل ثانية في المنطقة.

كل هذا يدفع بعضاً من المنظرين الاتراك الى وضع استراتيجيات تضمن لأنقرة حصة الاسد في اللعبة الاميركية الجديدة التي سترسم خريطة الشرق الاوسط من جديد، خصوصاً ان الاتراك يرتابون من خطط الاميركيين في العراق بعدما جعلوا الاكراد هناك «حليفهم الاول» وتركوا المجال مفتوحاً لتدخل اسرائيلي واسع في شمال العراق. هذه الاحتمالات دفعت انقرة الى وضع خطط جديدة للتعامل مع المعطيات الاميركية –الاسرائيلية التي بات واضحاً انها ستفرض نفسها على الواقع في المنطقة التي يسعى الاتراك لكي يكون لهم دور قبل الآخرين فيها. وهو الامر الذي دفع بعض الاوساط التركية التي ربطت مصيرها دائماً بواشنطن الى الاتفاق مع الاميركيين حول مجمل حساباتهم الخاصة بالعراق والمنطقة، بما في ذلك قيام الدولة الكردية شرط ان تكون تحت المظلة التركية بدلاً من ان تبقى ضمن حدود العراق العربي او تقترب من ايران الفارسية.

وسبق للرئيس التركي الراحل تورغوت اوزال أن فكر هكذا خلال حرب الخليج الاولى عندما امر الجيش التركي باجتياح شمال العراق وضمه الى تركيا بعد ان اتفق مع مسعود البرزاني وجلال الطالباني في موضوع اقامة رابطة كونفيدرالية بين تركيا والكيان الكردي المستقل في شمال العـــراق.

ومعلوم ان اكراد العراق لا يمكن ان يفكروا بأي كيان كردي مستقل في شمال العراق لولا الدعم بل التحريض الاميركي الذي يستفز الكثير من الفئات العراقية الاخرى للقبول بالنظام الفيديرالي الذي يطالب به الاكراد وقد يقبل به الشيعة ليضمن لهم ذلك الغالبية بين العرب بعد انفصال الاكراد.

وضمن هذه المعطيات التي تحيط بتركيا يبقى السؤال الاول: هل وكيف سيرضى حزب العدالة والتنمية ذو الاصول الاسلامية لنفسه ان يتحمل مثل هذا الدور الاميركي الى جانب اسرائيل التي يعرف الجميع انها صاحبة الفكرة الاساسية في اقامة الدولة الكردية في المنطقة؟

اما السؤال الثاني والاهم، فهو كيف ستضمن انقرة امنها الوطني والقومي في مقابل الحسابات الاميركية الخاصة بالدولة الكردية المحتملة التي ستعني في الوقت نفسه استقطاع الجزء الاكبر من الجغرافيا التركية، خصوصاً ان غالبية اكراد المنطقة يعيشون في تركيا التي تؤوي نحو 15 مليون كردي.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)