إن الأوروبيين الذين ما فتئوا يعانون من آثار الرفض الفرنسي والهولندي لمعاهدة الدستور الأوروبي، يتلقون في الوقت الراهن نصائح حسنة النية للغاية من الخبراء والمسؤولين الأميركيين عما يتعين عليهم عمله، كما يستمعون لبعض الأقوال التي تتحدث عن الوفاة الوشيكة للاتحاد الأوروبي.
من ذلك مثلا ما كتبه “روبرت جيه. صامويلسن”"في “واشنطن بوست” حين قال: لقد ذهب زمان أوروبا وهي الآن تخرج شيئا فشيئا عن دائرة الفعل... أوروبا لم تعد حليفا قويا لأميركا ليس لأنها لا تتفق مع بعض أوجه السياسة الأميركية، ولكن لأنها لا تريد أن تقدم التعهدات المطلوبة التي يجب أن يقدمها الحليف القوي.
كما كتب “نايل فيرجسون” أستاذ التاريخ السابق بجامعة “ييل” في العدد الحالي من مجلة “ ذا نيو ريبابليك” يقول: لن تكون هناك ولايات متحدة أوروبية بعد الآن. ولكن من قال إنه ستكون هناك ولايات متحدة أوروبية في الأساس؟!. لقد كان ذلك نوعا من سوء الفهم الفظيع من قبل الأميركيين ومن قبل بعض الأوروبيين.
لن يكون هناك أبدا اتحاد أوروبي موسع كما تخيل الدستور. ولكن هذا في الحقيقة شيء يصب في مصلحة تماسك ووحدة أراضي الاتحاد الأوروبي، كما هو قائم حاليا. وسوف يستمر الاتحاد الأوروبي باعتباره اتحادا غير مسبوق بين دول كاملة السيادة، تحاول أن تتلمس طريقها نحو مصير غير واضح. وهذا الاتحاد سوف يظل قائما إلى جوار الولايات المتحدة التي يعتبر مصيرها في عهد ما بعد بوش غير معروف أيضاً.
إن الاتحاد الأوروبي يحاول الآن، وبعد الهزيمة التي مني بها في التصويت على الدستور في فرنسا وهولندا، أن يعيد تصور مستقبله. والأميركيون من المجرى السياسي العام في واشنطن، وكذلك من الجامعات والمعاهد، يوجهون إلى أوروبا عادة ثلاثة انتقادات هي:

الانتقاد الأول: إن أهم دولها تتعلق بما ينظر إليه الأميركيون على أنه نموذج اقتصادي واجتماعي غير فعال وقديم الطراز.

الثاني: إن الأوروبيين لا ينفقون سوى القليل على قواتهم المسلحة، ويتخذون موقفا مهادنا يفتقر إلى الواقعية تجاه العلاقات الدولية، ويفضلون الكلام الكثيرعلى الفعل، ويحاولون استرضاء المشاغبين، ولا يساعدون أميركا بالشكل الكافي. يقال للأوروبيين عادة إنهم سكان أنانيون لكوكب الزهرة أو كما يقول النقاد الأميركيون «المنتمون لكوكب المريخ وهو إله الحرب» الأكثر خشونة إنهم يفتقرون إلى الشجاعة.

الثالث: إن بعض الأوروبيين يعتقدون أن أوروبا يجب أن تتنافس مع الولايات المتحدة، أو تحاول أن تكون معادلاً لها في الوزن. وواشنطن تقول إن على هؤلاء الأوربيين أن ينتبهوا. أو كما قال "نيكولاس بيرن"، وكيل وزارة الخارجية الأميركية، أمام اجتماع عقد مؤخرا للناتو في السويد: سوف يكون هناك احتكاك وأنتم -الأوروبيون الذين تريدون أن تتنافسوا معنا- لن تكونوا سعداء به.

ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الانتقاد الأول. فالجميع لديهم معرفة بالبطالة السائدة في فرنسا وألمانيا، وبعدم مرونة سوق العمل بهما، وكذلك العقبات البيروقراطية التي تحول بينهما وبين إنشاء المشروعات الجديدة، وتجعلهما عاجزتين عن تحقيق الإصلاحات التي يقبل بها شعباهما. على نفس المنوال، نجد أن موضوع القطبية المتعددة، والقطبية الإحادية، وتوازن القوى في مقابل سيادة القوة الأميركية، قد قتل بحثا سواء في هذا العمود أو في أماكن أخرى. بيد أنه لم يتم قول الكثير عن الموضوع العسكري. فأوروبا تصرف أقل من الولايات المتحدة بكثير، والكثير مما تنفقه يذهب إلى الأسلحة والمعدات العسكرية المقلدة، أو التي يوجد لها نظير في أميركا.

بيد أن السؤال المهم في هذا السياق هو: لماذا تحتاج أوروبا إلى قوات مسلحة موسعة؟ ما هو التهديد الذي يواجهها؟ وهل هو الإرهاب؟. إن كل حكومة من الحكومات الأوروبية تعتبر أن موضوع الإرهاب من اختصاص الشرطة والاستخبارات وليس الجيوش، وتؤمن أن القيام بغزو دولة شرق أوسطية ودولة آسيوية ليس هو الوسيلة الملائمة ولا الذكية لمحاربة الإرهاب.

وكلما ازداد مقدار الخراب، وعدم الاستقرار في العراق، كلما زاد الأوروبيون اقتناعا بصواب موقفهم. إن الولايات المتحدة تساهم من خلال سياساتها هناك بتوليد المزيد من الإرهابيين، وبتكلفة باهظة بالنسبة لها وبالنسبة للعراقيين، في حين أن قوات الشرطة الأوروبية تقوم بالقبض على الإرهابيين وإيداعهم السجون دون أي مشكلات.

ما هي التهديدات الأخرى التي تواجه أوروبا؟ هل هي إعادة انبثاق التوجهات القومية في روسيا أو زيادة مطامعها التوسعية ؟ هل الصين تمثل أزمة؟ من الجائز. إن أي حكومة ذات تقاليد عسكرية جادة تعرف أنه من الضروري أن يكون لديها كادر عسكري محترف قادر على التوسع السريع. ففي عام 1939 كان جيش الولايات المتحدة بما في ذلك ما أصبح معروفا فيما بعد بـ"القوة الجوية المستقلة"، يضم 174 ألف جندي. أما اليوم فإننا نجد أن فرنسا بمفردها لديها عدد من الجنود المحترفين والطيارين يفوق هذا العدد.

من الضروري أن يكون لديك القدرة التكنولوجية والعلمية لإنتاج الأسلحة المتقدمة، ولامتلاك صناعة فضاء متقدمة. وأوروبا لديها الاثنان.

إذن لماذا يجب أن تحتاج إلى جيوش أكبر؟ الإجابة الأميركية هي: كي تساعد أميركا على المحافظة على النظام في العالم. ولكن طالما أن سياسات أميركا هذه تؤدي إلى هز استقرار العلاقات الدولية، وإلى توليد المزيد من الإرهاب والصراعات، فلماذا يجب أن يساعدها الأوروبيون؟

أعضاء الاتحاد الأوروبي قوم في غاية الأدب, وأدبهم يحول بينهم وبين أن يقولوا ذلك لأميركا، ولكن هذا هو ما يؤمن به معظمهم في قرارة أنفسهم. وهذا يفاقم في الحقيقة من الاختلاف الأساسي القائم بين الطرفين وغير القابل للحل على ما يبدو. في نفس الوقت نرى كوكب “المريخ” وكأنه يسير وحيدا، كما نرى كوكب الزهرة وكأنه غير راغب في مصاحبته على الدرب.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)