يبدو جليا اليوم أن تبادل الأدوار الذي طالما لعبته الأنظمة العربية فيما بينها ضمانا لقوتها والتخفيف من أي ضغوطات داخلية أو خارجية تتعرض لها بات في شبه المنتهي وهو أمر لمسه المراقبون في الأزمة الأخيرة التي تتعرض لها سورية ، وأمام ضعف المنظومة العربية و استمرار الدول المركزية فيها بصب القمح في الطاحونة الأمريكية.
فإن على سورية وهو ما يبدو أنها بدأت تفكر به جديا أن تعيد خلط الأوراق وتقلب الطاولة فيما يخصها فمن الواضح اليوم أن دمشق خسرت أهم أوراقها بصورة مبرمجة كان الهدف منها إخراجها من المعادلة السياسية ، فهي وبعد أن حاولت ترميم العلاقة مع العراق وإنهاء الشقاق مع تيار البعث في بغداد عبر بوابة الاقتصاد منذ عام 1998 جاء الرد قاصما بعد أحداث 11 / سبتمبر فكانت فرصة اليمين المتطرف مواتية لتقويض نظام صدام الديكتاتوري تحت ذريعة الحرب على الإرهاب و نزع أسلحة الدمار الشامل ، ولست أريد في هذا المقال الوصول إلى نتيجة ما حققته الإدارة الأمريكية في نزع أسلحة الدمار أو تصفية الإرهاب وتحقيق الرفاه الموعود للشعب العراقي إلا أنني أريد أن أذكر أن تدجين العراق مرحلة أولى لتدجين سورية ، ومن ثم فإن الحقيقة التي تقف وراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 / آذار المنصرم أيا كانت ، لا بد وأنها تحمل دلالات يجب أن يستوعبها الجميع ، وهي أن الحادثة وما تلاها جاء في عكس مصلحة سورية وبما يخدم المخطط الأمريكي في المنطقة ، وأزعم أن دمشق اليوم أمام خيار وحيد بعد أن حاول الزعماء العرب جميعا التنصل من الموقف مع علمهم بما يدور خلف الكواليس من باريس إلى واشنطن حيث عمد غالبيتهم إلى تقديم إشارات إلى واشنطن يعبرون فيها عن سخطهم من الطريقة التي تصرف فيها النظام السوري في لبنان دون أن يخرج تصريح واحد يدعم موقف دمشق في وقت هي بأمس الحاجة فيه لموقف سياسي هدفه إراحة الشارع السوري و كبح جماح الفورة السياسية التي غلبت على خطاب النخبة المتحزبة اللبنانية و التي استزلمت بالضغط الفرنسي الأمريكي العربي وهيجت الشارع اللبناني بطريقة عدائية ، من هنا يبدو جليا أن دمشق يجب أن تقود معركتها القادمة بنفسها و هي معركة يجب فيها أن يعي النظام أن شرعيته باتت بحكم المنتهية إذا لم يتمسك بالشارع وإذا لم يراهن على خيارات الشعب ، وهنا يصلح أن يتنبه النظام السوري إلى أن الشرخ آخذ بالاتساع قطعا وأن قوى كثيرة باتت تعمل من الداخل على زعزعة الوضع وهو ما لن تتمكن سورية من منعه فيما الأعين مفتوحة عليها وثمة من يعُدٌ الخطوات على الطبقة الحاكمة ، فمعركة الشرعية التي تضمن للنظام نوعا من التوازن تقوم على أساس إنهاء حالة الهيمنة المفروضة على الحياة اليومية للمواطن من قبل مؤسسات ذات طابع شمولى تدير الدولة بعقلية الحاكم بأمر الله دون وجود من يحاسبها و يراقب أدائها ويمنع خروجها عن المسار الذي يجب أن تلتزمه لتحقيق مصلحة الدولة و المواطن وأن تلتزم طوعا بخيارات الشارع مهما كانت وإن كان النظام يعتبر إنهاء سيطرته لمصلحة خيار الشارع انتحارا لا استجابة لمتطلبات الواقع .
ولكن الحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع هي أن دمشق تقف اليوم ولأول مرة منذ حرب أكتوبر 73 بصورة جدية أمام استحقاق تعلن عبره بأنها لا زالت رقما يحسب حسابه بعد أن دخل النظام السوري رهان البقاء من عدمه مستنزفا شعبيته أمام هجمة إعلامية شرسة فتحت عينا على سورية وأغمضت العين الثانية عن إسرائيل أو سواها وكرست صورة نمطية تعطي انطباعا بأن النظام السوري وإن لم تكن له مصلحة بما يجري في العراق أو لبنان من فوضى إلا أنه نظام قاصر وغير مؤهل وتجاوزه التاريخ لأنه يتصرف عكس ما تتطلبه المرحلة في حين تتباهى الدول الأخرى في المنطقة وعلى رأسها الدول العربية بقدرتها على السير في الركب وضمان إبعاد التهم عنها ودعمها لخيارات الدول الكبرى و استراتيجياتها مهما كان الهدف البعيد لهذه الاستراتيجيات ، وهذا الضعف الحقيقي الذي قد يراه النظام في دمشق ويتغاضى عنه لا تكفي معالجته بإصلاح على مستوى الداخل كما يعتقد البعض إذ إن سورية ليست دولة خارج التاريخ كما أن هناك حقيقة لابد أن يعترف بها الجميع وهي أن سورية لم تعد قادرة على عزل نفسها عن المجتمع الدولي حتى ولو اتخذت قرارا بالتخلي عن كل ما يجري حولها و الالتفات إلى المصالح الخاصة معتزلة حتى قضاياها التاريخية ، فسورية اليوم تقف في عين العاصفة بحالة عدم توازن ، وقد يتطلب الأمر عودة حقيقية إلى الملف الأهم و الذي يمكن التسلح به لخوض المعركة مع الخارج ولا أقصد هنا أن أقدم وصفة للنظام لكي يتعافى من حالة المرض بصورة انتهازية لا تختلف عن العقلية التي جعلت من القضية الفلسطينية خبزا يوميا تعيش عليه الأنظمة العربية في مواجهة شعوبها و قمعها على مبدأ “لاصوت يعلو فوق صوت المعركة” والمعركة الحقيقية اليوم هي ملف الجولان ولا أقصد هنا الاكتفاء برسائل دمشق المتكررة للخارج و المطالبة سياسيا باستعادة الجولان ودعوة إسرائيل للالتزام بالسلام العادل و الشامل وفق القرارات الدولية التي فشلت بإقناع إسرائيل العودة إلى طاولة المفاوضات مع دمشق طوال الفترة التي أعقبت اتفاق الفصل بين القوات الإسرائيلية و الفلسطينية الذي وقع عام 1974 والذي سمح بأن تكون حدود إسرائيل مع سورية كما يحلو للبعض أن يسميها الحدود الأكثر أمنا للدولة العبرية في إشارة سخرية من عجز دمشق ونظامها طوال الثلاثين سنة الماضية عن إجبار إسرائيل أن تسعى للسلام مع سورية اتقاء لأي حرب أو وقفا لأي نزيف مفترض كما حصل مع إسرائيل في جبهة الجنوب اللبناني باستثناء بعض الاختراقات التي حصلت بعد مؤتمر مدريد والتي نتج عنها ما سمي بوديعة رابين .
معركة حق سورية في الجولان المحتل اليوم هي الورقة التي ليس لأحد أن يلتف حولها سواء من العرب أو الدول الأخرى ، وأزعم هنا أن سورية قد بدأت جديا بتحديد خياراتها في هذا الاتجاه وجعل تحرير الجولان بوصلتها السياسية للمرحلة القادمة ، وإذا ما صدقت التوقعات فإن إسرائيل و الولايات المتحدة تكونان قد أجبرتا دمشق على التفكير بالأسلوب الصحيح الذي لم تتوقعا أن تلجأ إليه .