لا أعرف إن كانت سوريا تسمح بتسلل مجاهدين إلى العراق. ولا أعرف إن كان هؤلاء يتلقون تدريبهم في الأراضي السورية، أو إذا كانوا يستقلون سيارات مفخخة تنطلق بهم إلى العراق، حيث يفجرونها، كما تقول الولايات المتحدة الأمريكية. أعرف، بالمقابل، أن التنافر بين القوة والمنطق بلغ حد اللامعقول في العلاقة الأمريكية مع سوريا، الدولة التي تجد نفسها في مأزق حقيقي، حده الأول رغبتها في وضع نفسها خارج متناول اليد الأمريكية المؤذية، وحده الثاني رفض أمريكي مصمم لكل ما تفعله دمشق من أجل تبرئة نفسها، وإصرار واشنطن على تحميل السلطة السورية مسؤولية ما يجري في العراق .

وكانت أمريكا قد قالت أول الأمر إن على سوريا منع قدوم المتسللين من أراضيها إلى العراق، وإغلاق حدودها أمامهم بنسبة مائة بالمائة. حين عرضت دمشق التعاون الرسمي والمنظم وأعلنت عزمها على إغلاق الحدود، مع ما يتطلبه هذا الإجراء من عمل وثيق مع الأمريكيين على جانبها الآخر، أعلن هؤلاء أنهم لا يريدون إغلاقها بأية نسبة، ويرغبون في تركها مفتوحة أمام كل من هب ودب من “المتسللين” ، على أن تبلغهم الأجهزة السورية بعبورهم إلى العراق ووجهتهم، كي تتكفل القوات الأمريكية بالقضاء عليهم، ضمن خطة وضعتها تقوم على استدراج “الإرهابيين” من أربعة أصقاع الأرض والقضاء عليهم هناك.

لإثبات رغبتها في التعاون وحسن نيتها، كان على سوريا إغلاق حدودها أول الأمر، ثم صار عليها فتحها على مصراعيها. في هذه الأثناء، حملتها الإدارة الأمريكية مسؤولية ما يجري في العراق، المسؤولية عن مقاومة الاحتلال، الذي اعترف جنرالات البنتاغون مرات عديدة أن عدد المتسللين المفترضين من سوريا لا يتجاوز 2 إلى 3% في صفوف “الإرهابيين” المقاتلين!

تذكر حال سوريا مع أمريكا في العراق بقصة الذئب والخروف الشهيرة، فقد اتهم الأول الثاني بتعكير الماء الذي يشربه، وأخبره أن لا حل لخلافهما بغير قتله وأكله. حين قال الخروف إنه يشرب من مكان يقع في أسفل النهر وليس في أعلاه، وأنه ليس من يعكر الماء، أكد الذئب بلغة استنكارية: أنت تعكر الماء في جميع الأحوال. ولا حل لخلافنا بغير قتلك وأكلك!

ماذا يفعل الضعيف أمام قوة قاهرة، تلغي المنطق وتفرض واقعا شاذا وغير عقلاني على المنطقة، قاد في طور أول إلى حرب لا مسوغ لها في العراق، ورفض في الطور التالي أن يرى حقيقة المقاومة المتصاعدة ضده، وأصر منذ ذلك الوقت على الإمعان في الخطأ ولجأ إلى تصعيد القوة، مع أن التصعيد وسع رقعة المقاومة بدل أن يخمدها، ويهدد بإشعال المنطقة العربية بأسرها، مثلما سبق له أن أشعل مناطق أخرى من العالم، كما فعل في فيتنام، حيث تطلبت آليات اشتغاله ذلك، وجعلت تراجعه عن أي خطأ مهما كان تافها ضربا من هزيمة رفض قبولها، واعتمد في تصحيحها على القوة وحدها، على منطق يجعل العنف الوسيلة الوحيدة لتسوية الخلافات والنزاعات، منطق يلغي العقل ويقوم على استعمال القوة خارج أي قانون أو عرف أو مشتركات إنسانية.

منذ وطأت قدم أول جندي أمريكي العراق، بدأت أمريكا تعد العدة للفصل الثاني من عمليتها الاستراتيجية الكبرى في المشرق العربي والإقليمي، التي كان جليا أن ميدانها سيشمل سوريا ولبنان، وسيمتد شرقا إلى إيران، بعد احتلال مركزها في بلاد الرافدين. ومع أن القيادة السورية لم تتخذ الترتيبات اللازمة لحماية بلادها من المخاطر، ولم تصدق أول الأمر أن احتلال العراق هو بداية مخطط خطير سيضع حدا لعلاقاتها المتميزة مع أمريكا، فإن تحميلها وزر المقاومة في العراق ليس أمرا عادلا، بحكم طابع المقاومة السياسي، ووقائع تؤكد أنها تنضوي في سياق داخلي صرف، وأخرى تثبت أن الاحتلال يستثير هنا أيضا - مثلما استثار في كل مكان آخر - مقاومة الخاضعين له، وأن العراقيين يقاومون لأنهم يرفضون الحكم الأجنبي وليس لأن سوريا تأمرهم بالمقاومة أو تساعدهم عليها. بكلام آخر: لن تتوقف المقاومة في العراق، إن قررت سوريا وقفها، ولن تجد سوريا من يستجيب لها، وستستمر عملياتها بالوتيرة الراهنة أو بوتيرة قريبة منها، حتى إن أغلقت دمشق حدودها العراقية بنسبة مائة بالمائة، ومنعت التسلل منها، وأبلغت الأمريكيين عن المتسللين، الذين لا يشكلون في أحسن الأحوال غير 2% من المقاومة. وعلى كل حال، فقد اتسعت المقاومة، رغم أن سوريا أغلقت حدودها مع العراق، وتعاونت مع الأمريكيين، الذين أشادوا مرات كثيرة بخطواتها على لسان بوش وباول ورامسفيلد وتشيني ورايس، لكنهم طالبوها بالمزيد، كي لا يغلقوا الباب أمام استخدام منطق القوة ضدها، وليس لأنها تقف حقا وراء المقاومة.

لماذا لا تعرّب سوريا أو تدوّل مشكلة حدودها مع أمريكا، التي تستخدمها بطريقة تتيح لها استخدام القوة ضدها ذات يوم؟ لماذا لا تدعو لجنة عربية / دولية دائمة للمرابطة على حدودها الشرقية، تراقبها وتقدم تقارير موثقة حول أوضاع الجانب السوري منها؟ ماذا ينتظر قادة دمشق من أمريكا، التي تعاملهم معاملة الذئب للخروف في القصة الشهيرة، وقد تنقض عليهم في أية لحظة، ليس لأنهم يعكرون عليها الماء، بل لأنها تريد أكل بلدهم؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)