أدى الاستدعاء الأمني الذي وجهته السلطات السورية إلى "منتدى جمال الأتاسي"، مرفقاً بقرار بإقفال المنتدى وتوقيف جميع أنشطته نهائياً، إلى خلط جديد للأوراق وإضافة مصاعب إلى ساحة العمل الحقوقي والنضال الديمقراطي والتحول نحو انفتاح سياسي متعثر في سوريا. ويأتي القرار الذي كشف عنه بيان للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في دمشق الأربعاء الماضي، في توقيت استثنائي ولا يخلو من حرج بالنسبة لـ“منتدى الأتاسي”؛ حيث كان من المقرر أن ينظم ندوة سياسية اليوم السبت، أعلن الخميس أنه مستمر في التهيئة لأعمالها كما كان مقرراً من قبل، وقالت إدارة المنتدى رافضة قرار الإغلاق، باعتباره «غير صادر عن جهة رسمية"، إنه لم يبلغ إليها "بشكل رسمي مكتوب».

ويأتي القرار أيضاً بعد أقل من شهر على إنهاء الاعتقال الجماعي لأعضاء مجلس إدارة المنتدى، وفي مرحلة تتعاظم الضغوط والمطالبات الخارجية من أجل إصلاح ديمقراطي في سوريا. فمن يقف وراء “منتدى جمال الأتاسي”؟ وما هي أهدافه المعلنة؟ وكيف يمكن أن نتوقع مآله ومصير أهدافه؟ تشكل “منتدى جمال الأتاسي للحوار والديمقراطية” في إطار الحراك الثقافي والسياسي الذي نشط في سوريا إثر كلمة الرئيس بشار الأسد بمناسبة أدائه قسم اليمين الدستورية، وما تضمنته من وعود بالانفتاح والتحديث السياسي.

منتدى الأتاسي كان أحد منتديات عديدة، بعضها جاد وبعضها ظرفي، جسدت في مجملها ما عرف بربيع دمشق. وأعلن “منتدى الأتاسي” عن نفسه في 16 يناير 2001 كهيئة ثقافية - سياسية مستقلة تسعى إلى «إتاحة ساحة مفتوحة للحوار بين أوسع قطاعات الشعب حول مختلف القضايا التي تهم المواطن»، وإلى “المساهمة في تأصيل الثقافة العربية وتجديدها لمواكبة تطورات العصر”. وقام المنتدى على خليط من التوجهات والوجوه المتباينة، وغالبية أعضائه ذوو خلفيات قومية ويسارية ماركسية. رئيسته هي سهير الأتاسي ذات التوجه الناصري، أما أعضاء مجلس إدارته فهم ناهد بدوية (عضو الحزب الشيوعي)، وحسين عودات (عضو سابق في حزب البعث والمدير السابق لوكالة الأنباء السورية الرسمية)، وحازم النهار «عضو حزب العمال الثوري الماركسي»، وجهاد مسوتي «عضو سابق في الحزب الشيوعي»، وعبدالناصر كلحوس «قيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي»، ويوسف جهماني «يساري وصاحب دار حوران للنشر»، ومحمد محفوظ «عضو سابق في الحزب الشيوعي».

وشدد “منتدى الأتاسي” مراراً على أنه لا يتبنى مواقف سياسية إلا بالمعنى السياسي، وأن أعضاء مجلس إدارته الثمانية وأعضاء هيئته العامة البالغ عددهم 35 عضوا، هم موجودون بصفاتهم الشخصية وليسوا ممثلين لجهات معينة. ولعل ذلك أحد الأسباب وراء سياسة غض النظر رسمياً إزاء “منتدى الأتاسي”، سواء أثناء ربيع دمشق أم بعده حين قامت السلطات بإغلاق وحظر المنتديات السياسية واعتقال عشرات الناشطين بمن فيهم الناطق باسم “منتدى الأتاسي” حبيب عيسى. استثني المنتدى من الإغلاق لكنه بقي من دون ترخيص حتى الآن. ونقلت صحيفة أردنية عن الرئيس بشار الأسد في حديث أجرته معه العام الماضي قوله إن الإجراءات التنظيمية بحق المنتديات لا تشمل“منتدى الأتاسي”، وهو ما فسر على أنه موافقة رئاسية على نشاط المنتدى. وجاء اختيار اسم السياسي الراحل الدكتور جمال الأتاسي لهذا المنتدى الذي أقيم في بيته بدمشق، وبمبادرة من أرملته، لأنه شخصية وطنية كان لها قبول في أوساط من السلطة وأخرى معارضة؛ فهو مفكر وأحد مؤسسي حزب “البعث”، قبل أن يؤسس “الاتحاد الاشتراكي العربي” عام 1964 لينضم مع فصيله عام 1968 إلى ائتلاف "حركة القوميين العرب" و"البعث" العراقي (ميشيل عفلق وصلاح البيطار) في جبهة معارضة لحكم صلاح جديد، فاعتقل إلى أن تم الإفراج عنه بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970، حيث قربه النظام الجديد وشارك حزبه في أول حكومة بوزيرين.

وأسهم في تأسيس “الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1972، لكنه سرعان ما اختلف مع السلطة وحزب “البعث” الحاكم، وتعرض “الاتحاد الاشتراكي العربي” إلى انقسام آخر تحول معه جناح الأتاسي إلى حزب معارض عانى قادته من التنكيل والاعتقال عدا الأتاسي نفسه الذي استثناه الأسد بقرار خاص إلى أن توفي عام 1996، لأنه كان أستاذه! أما استثناء منتدى الأتاسي من قرارات الإغلاق في عهد الأسد الابن، طوال الأربع سنوات الماضية، فربما كان احتراماً لذكرى الدكتور الأتاسي، أو أرادت السلطات من خلاله إبقاء نافذة للمعارضة التي أصبح “منتدى الأتاسي” منبرها الوحيد بعد إغلاقات واعتقالات ربيع دمشق 2001.

بيد أن “التعامي” الذي أظهرته السلطة حيال محاضرات وندوات سياسية نظمها "منتدى الأتاسي" طوال السنوات الماضية، وتميزت بصراحة وروح نقدية غير معهودتين، أعقبه اعتقال جميع أعضاء مجلس إدارة المنتدى فجر الـ25 من مايو الماضي والتحقيق معهم طيلة ستة أيام، على خلفية الندوة التي نظمها المنتدى في مطلع الشهر وشاركت فيها 15 جماعة سياسية سورية، وقبل اعتقالهم قام الأمن السياسي، مباشرة إثر انتهاء الندوة، بتوقيف عضو المنتدى علي عبدالله الذي تلا رسالة المراقب العام للإخوان المسلمين من منفاه في بريطانيا، فتمت إحالته إلى محكمة أمن الدولة حيث يتم اعتقاله ومحاكمته الآن. ورغم الاعتصامات التي نفذت للاحتجاج على اعتقال الأعضاء وشكلت مظهراً جديداً في سوريا، وما أبدته واشنطن وباريس من “قلق” إزاء الحدث، فإن تساؤلات كثيرة تطرح حول الحصيلة النهائية لأنشطة “منتدى الأتاسي”: لماذا لم يستطع توسيع جمهوره خارج بضع عشرات من أعضاء الأحزاب المرتبطة بإدارة المنتدى؟ وهل استطاع أن يقنع مجرد الذين حضروا أنشطته بأطروحاته الديمقراطية؟ وإلى متى سيظل بمنأى عن الانشقاقات التي أصابت جميع الأحزاب والقوى السياسية السورية؟ وما هو أفق عمله مستقبلا؟ وكيف سيتعاطى مع قرار إغلاقه الأخير؟.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)