أسوأ احتمالات تطور الوضع السوري يكثّفها التعبير الإنكليزي ستيلميت stalemate، أي حالة من الاستعصاء أو الانسداد المتفاقم الذي تزيده تصرفات الفاعلين «روكبة» وتعقيدا. يناسب لوصف هذه الحالة أيضا أن نستحضر مدركات الحركة في المكان التي لا تفضي إلى اي تقدم أو تغيير في بنية الحالة، رغم أنها قد لا تخلو من جسيم الحوادث وعنيف التوترات والاحتكاكات. بل إن الحوادث والتوترات تسير بطريقة تفضي إلى تثبيت الوضع ذاته وتعميق الانغراز فيه كما تغرز سيارة في مستنقع طيني: محاولاتها للخروج تزيدها انغرازا. وفي ظل المعطيات الحالية ستعني الستيلميت إمعان أوضاع البلاد في الاهتراء مع ثبات الضغوط الأميركية على مستوى إرهاق النظام لا تنحدر دونه، ومع بقاء هذا أسير أولوية بقائه، عاجزا عن تغيير سبل تعاطيه مع الفاعلين الآخرين.

الفاعلون المقصودون هم النظام والأميركيون، وفي مرتبة أقل المعارضة الداخلية والإسلاميون السوريون. ويسهم تأويل كل منهم للأحداث ولتصرفات الفاعلين الآخرين في تثبيت الستيلميت. فانعدام الثقة بينهم يعوق بلورة تفاهم أو فتح باب للتغيير، وتمثيل كل من هم لمصالح (أو لمخاوف) حقيقية يجعل من المتعذر إلغاؤه أو القفز فوقه. وغياب أقنية الحوار والتفاعل المباشر يفاقم حالة عدم الثقة بين الأطراف الداخليين، وتغذّي ردود أفعال كل منهم الاستعصاء. ويرتهن الجميع لبنية من ردود الفعل تعمّق المأزق وتجعل الخيارات المتصورة متساوية في سوئها ولا جدواها. وقد تغري هذه العقدة الأطراف القادرة باللجوء إلى العنف، لكن من شأن العنف أن يعمق المأزق ويزيد العقدة تعقيدا بدل ان يحلها أو يحلحلها. يدرك الأميركيون ذلك في تعاملهم مع النظام، ولا يبدو أنه يهمهم كثيرا. ويدركه النظام ذلك في تعامله مع الداخل، لكنه خياره المفضل دوما. ما يعني أننا دوما على بعد حدث عارض أو «خطأ» عن تفجر عنف مدمر. مدمر لكن دون تغيير اختراقي حقيقي. في الأصل تعفنت واستنقعت الأوضاع في المنطقة بسبب الاستغناء بالعنف الوفير عن التغيير الاجتماعي والإقليمي.

النظام قوة ستيلميت، يملك القوة ووسائل السيطرة على الداخل ويضمن سلما أهليا، لكن مشروطا بهيمنته وحصانة موقعه، ويصون بقاءه بجعل التغيير مستحيلا أو بالغ الخطورة. سابقة التغيير العراقية أفادته كثيرا في هذا المجال. سابقة الإخوان المسلمين قبل ربع قرن كانت جمة الفائدة أيضا. كلتاهما جعلته نوعا من الحل: هذا هو المأزق.

الأميركيون قوة ستيلميت كذلك. فهم الفاعل الذي يحتكر القرار الجيوسياسي في المنطقة، وهم الطرف الذي يستطيع إفشال أو خنق اي تحول اجتماعي سياسي لا يناسبه، لكنه غير قادر أبدا على نيل قبول محلي بما يناسبه بسبب تطرف متأصل وانحياز بنيوي في السياسية الأميركية. وهذا هو سبب كون الأميركيين قوة جمود وليس قوة تغيير حقيقية في الشرق الأوسط. وإذا بدا أن الأمر نقيض ذلك بعد 11 ايلول (سبتمبر) 2001، وأن إسقاط نظام صدام يبرهن على تحول في السياسة الأميركية نحو التغيير، فإن الأمر مرهون ببناء نظام استقرار جديد في الشرق الأوسط، تعود بعده واشنطن بلا شك قوة محافظة ومدافعة عن استقرار نظام يمنحها الهيمنة على تفاعلاته والسيادة العليا فيه. وستجدد الهيمنة هذه شروط الستيلميت الإقليمي وتزيدها عمقا، رغم ان آذاننا ستشنف كثيرا بأناشيد الديموقراطية والسلام في الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

نريد أن نقول إن الستيلميت السوري الذي نخشاه يأتي على خلفية ستيلميت شرق أوسطي اعمق وأقدم وأرسخ . ونعتقد أن انتهاء التنناقضات في المنطقة إلى الجمود والاستعصاء والانغراز، وليس إلى اختراق تغييري، هو خاصية شرق اوسطية أصيلة، منبعها عدم استقلال المنطقة بصراعاتها وسياساتها، وتحولها ساحة لمعركة الهيمنة العالمية، وامتلاك القوى المهيمنة (الأميركيون، إسرائيل، الدول العربية، وفي وقت سابق الاتحاد السوفياتي) قدرة اعتراض ( أو ممانعة) خطط بعضها دون القدرة على وضع خطط مستدامة للسلام والتنمية.

سورية ضمن هذا النظام. نظامها يستفيد من النظام الشرق أوسطي لتطبيع ذاته وصيانة بقائه. فالنظام السوري ينسخ على النطاق المحلي بنية النظام الشرق اوسطي دون تعديل يذكر. والعلاقة بين السلطة والمجتمع المحليين هي صورة طبق الأصل عن العلاقة الشرق أوسطية التي تهيمن فيها الولايات المتحدة على المنطقة. والتكوين الولائي المحاسيبي للنظام يحاكي التكوين الولائي والمحاسيبي لنظام الهيمنة الأميركية الإقليمي (القذافي وزين العابدين وكثيرون غيرهما نماذج)، خلافا لما تتوهمه حماسات بعض الديموقراطيين الجدد. واللاعدالة المزمنة في المنطقة تثلم حس العدل الأصيل عند السوريين (وغيرهم)، وتقدم لنخبة السلطة تسويغاً سينيكياً للدوس على حقوق مواطنيها.

هناك لعبة ستيلميت محلية داخل لعبة ستيلميت إقليمية ودولية على غرار لعبة الأم الروسية. تتغذى اللعبة المحلية من انعدام ثقة عميق بين الأطراف. ويرسخها التوازن الحالي بين طرف قوي اعتاد تسييس الوطنية ولا يريد التغيير (ويجد في واشنطن سندا غير متوقع)، وأطراف أضعف تريد التغيير وعاجزة عن فرضه أو الدفع نحوه. علاقات الشك بين الإسلاميين والعلمانيين تثبت أيضا الاستعصاء السوري. ويعمق الشكوك والاستعصاء التلوث الطائفي العميق والخفي للسياسة والثقافة في سورية. ويبدو أن جملة الضغوط الأميركية القوية اليوم، التي تقف دون عتبة تغيير النظام، والتفاعلات الداخلية التي لم تبلغ بدورها عتبة التغيير، وسلوك النظام القائم على التكيّف السلبي مع الضغوط الخارجية والتململ الداخلي، يدشن طورا جديدا ومقلقا من الاستعصاء والتوتر الجمودي. ثم إن ما يسعى إليه الأميركيون من عزل للنظام دون مخاطبة القضايا الأساسية في المنطقة، أي الاحتلال والتنمية والعدالة، لن يؤدي إلا إلى تجديد الاستعصاء السوري وتعميق الاستعصاء الإقليمي - مع كلفة باهظة. الأميركيون بالفعل ليست لديهم سياسة حيال سورية. وهم على درجة من القوة والغرور تعفيهم من مشقة بلورة سياسة واضحة. فهم لن يخسروا شيئا، وحدهم السوريون معرضون لأن يخسروا كل شيء.

النظام، كذلك، ليس له سياسة واضحة في سورية. هنا أيضا هو نسخة طبق الأصل عن المهيمن الأكبر. وهنا أيضا وحدهم السوريون هم المعرضون للخسارة. لعل شرط الانسداد وتكافؤ الخيارات السيئة هذا، في سورية وفي ما يسمى الشرق الأوسط، هو ما يعطي انطباعا دائما بأننا في مرحلة انتقالية لا تنقضي، وأننا نعيش حياة غير حقيقية. حياة بالوكالة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)