المتابعون الاميركيون من قرب للأوضاع في الشرق الأوسط ولـ“تورط” بلادهم في مشكلاتها وقضاياها يلاحظون هذه الأيام نشوء حال بالغة الخطورة في العراق من شأنها تهديد الولايات المتحدة وكل الاطراف المعنيين في المنطقة. وتنبع ملاحظة هؤلاء من حقيقة اساسية هي وجود نحو مليار واكثر من مئتي مليون مسلم تنتمي غالبيتهم الى المذهب السني في حين ينتمي الباقون الى المذهب الشيعي. غالبية هؤلاء تبدو مشاعرها حيال الغرب وخصوصاً اميركا متأرجحة وأحيانا متناقضة. فهي “تحبها” اذا جاز التعبير بسبب ما هي عليه من تقدم وحرية وازدهار اقتصادي وتقدم في كل المجالات. لكنها لا تحب في الوقت نفسه سياساتها ومحاولاتها فرض نظام دولي جديد على العالم وخصوصاً اعادة ترتيب اوضاع الشرق الأوسط على نحو يخدم مصالحها ولا يأخذ في الاعتبار مصالح شعوبها ودولها. الا ان اقلية من هؤلاء المسلمين تكره اميركا على نحو مطلق. وقسم منها ترجم كرهه هذا عملياً بانتقاله الى العمل العسكري او “الارهابي” او “الجهادي” او المقاوم ضد الاميركيين في العراق وخارجه. وهدفه الأول من ذلك الحاق الهزيمة باميركا واحباط كل الجهود التي تبذلها والسياسات التي تسعى الى تنفيذها.

ولا يلغي كون الاقلية المذكورة لا تشكل الا نسبة صغيرة جداً من المجموع الاسلامي الكبير حقيقة مهمة هي ان المواجهة التي تخوضها اميركا ضدها بكل انواع الاسلحة وخصوصاً في العراق ستكون طويلة فضلاً عن ان الانتصار فيها لن يكون مضموناً. ذلك ان اميركا ليست قادرة الآـن ولن تكون قادرة في المستقبل لاسباب متنوعة معروفة على زيادة عدد قواتها العسكرية العاملة في العراق على النحو الكبير المطلوب.

كما ان رئيسها جورج بوش لن يكون قادراً على الاستمرار في المواجهة المذكورة اذا لم يحقق انتصارات او على الاقل نجاحات ملموسة خلال سنة اوسنتين من الآن. ومن شأن ذلك ان يجعله يدخل دائرة الانتحار السياسي. وفي حال فشل بوش في الانتصار أو على الاقل النجاح، يضيف المتابعون الاميركيون انفسهم، سيكون عليه اعلان “الانتصار” في العراق وبدء تسليم السلطة الامنية والعسكرية الى العراقيين ثم الانسحاب تدريجاً من هذه البلاد مع ما لا بد ان يفرضه عليه ذلك من خفض لوجود اميركا او لمظاهر هذا الوجود وعلى نحو ملحوظ في كل المنطقة. واذا حصل ذلك فان النتائج على المنطقة والعالم ستكون خطيرة بل كارثية، ذلك ان الانسحاب سيتم قبل حل كل المشكلات العراقية او معظمها ومنها الخلافات بين السنة والشيعة التي بدأت تتخذ مظاهر عنفية متصاعدة رغم اجتهاد الكثيرين لانكارها او على الاقل للتخفيف منها، واحد أهم النتائج سيكون غرق العراق في حرب أهلية طاحنة ذات طابع مذهبي اسلامي في حقيقتها وقد تنتشر هذه الحرب خارج العراق ايضاً. فايران الشيعية ستهب لمساعدة الشيعة العراقيين. والعرب السنة او بالأحرى معظمهم وخصوصاً الذين منهم في منطقة الخليج سيسارعون الى مساعدة السنة العراقيين العرب رغم كونهم أقلية. ولا أحد يعرف ماذا يمكن ان ينجم عن ذلك.

طبعاً، يستدرك المتابعون الاميركيون انفسهم، قامت ايران منذ اسقاط اميركا نظام صدام حسين بدورها العراقي بكثير من الذكاء وربما الحكمة. وهي ستواصل القيام به بالطريقة نفسها رغم نجاح المحافظين فيها في الامساك بكل مفاصل السلطة والنظام في اعقاب فوز محمود احمدي نجاد الراديكالي برئاسة الجمهورية فيها قبل مدة قصيرة. لكن تطور الاوضاع العراقية لا يتوقف على الايرانيين وحدهم. بل يتوقف ايضاً على الدول العربية التي بسلوكها وسياساتها تستطيع ان تساهم اما في انفجار العراق واما في العمل الجاد لمنعه من الانزلاق نحو الحرب الاهلية. اذ عليها ان تتحرك وفي سرعة لتفادي اندلاع الحريق العراقي الذي بدأ دخانه يؤذي الابصار. طبعاً لا يعني ذلك ان هذه الدول وفي مقدمها مصر والمملكة العربية السعودية لم تكن ناشطة في محاولة قمع المتطرفين الاسلاميين «“القاعدة” وغيرها» وضرب ارهابهم.

بل يعني ان النشاط المذكور نفسه تسبب احياناً كثيرة في مضاعفة راديكالية الاوضاع في بلدانهم او بالاحرى راديكالية عدد من الفئات والجهات فيها، فالسعودية تواجه وضعاً مستحيل الاحتمال. فاذا تابعت وبجدية تامة ملاحقة الحركات السلفية الناشطة فيها فانها ستجد نفسها مع الوقت في مواجهة الوهابية التي كانت احد الركنين الاساسيين اللذين قامت عليهما مملكة آل سعود قبل بضعة عقود، واذا تعرض نظام برويز مشرف في باكستان الى خطر حقيقي فان الحال في افغانستان قد تعود الى ما كانت عليه من عدم استقرار بل من حروب. كما ان باكستان نفسها قد تعود الى الوراء في اكثر من ميدان ومجال لذلك على الدول العربية وربما الاسلامية ان تتفق على استراتيجيا موحدة وعلى تنفيذها ذات ابعاد عدة منها السياسي ومنها الديني ومنها الاقتصادي ومنها الاجتماعي...

وما يساعدها على ذلك الارتفاع الكبير في مدخول هذه الدول الذي تسببت به الزيادة الكبيرة في اسعار النفط الذي يشكل الثروة الاساسية عندها والذي يمكن استعماله لانفاق الأموال ليس فقط على المشروعات الضخمة، بل على الفقراء لتحسين اوضاعهم. لكن الأمل في ان تقدم الدول المذكورة على ذلك ليس كبيراً.

كيف تواجه اميركا التطورات المفصلة اعلاه؟

يعتقد المتابعون الاميركيون انفسهم ان "خسارة" اميركا في العراق وان تمت تحت عنوان الربح والانتصار ستصيب اوروبا اكثر من غيرها نظراً الى الانعكاسات الخطرة للفراغ الذي يتسبب به انسحاب اميركا من العراق وللتطورات السلبية التي لا بد ان تعقب ذلك. انطلاقاً من هذا الأمر يرى هؤلاء ان تعاوناً واضحاً وجدياً بين الولايات المتحدة واوروبا هو الوحيد الذي يمكن ان يساعد في مواجهة كل هذه التطورات. لكن الاسئلة التي تطرح هنا كثيرة، منها هل ان الرئيس الاميركي جورج بوش حاضر للاقتناع بدور اوروبي طالما رفضه وللتخلي عن الدور “الامبريالي” الذي رسمه لنفسه وحاول القيام به؟ ومنها ايضاً هل ان اوروبا جاهزة للتعاون مع اميركا. ولا سيما في ظل الاشكالات والمشكلات الاوروبية العامة والداخلية التي تعصف بها؟ أما الاجوبة على اسئلة كهذه فايجابية الى حد ما. ذلك ان بوش سيواجه انتخابات تشريعية خلال سنة. واذا خسر مقاعد اساسية فيها فسيجد نفسه مضطراً للاستجابة لضغوط الكونغرس لايجاد مخرج من العراق. ولا يكون ذلك الا بالتعاون مع اوروبا. فضلاً عن ان مشكلات اوروبا الراهنة قد تفقد قيمتها اذا تفجر الوضع في العراق وتالياً في المنطقة الأمر الذي لا بد ان يدفعها الى الاهتمام بالتعاون مع اميركا. الا ان المقلق في كل ذلك، الى الانفجار العراقي واخطاره الاقليمية والدولية، هو على حد قول المتابعين انفسهم تحول المواجهة بين ارهابيين او تيارات اسلامية ارهابية. والغرب الى مواجهة بين المسلمين والمسيحيين في العالم. والقلق في محله ذلك ان عدداً من العاملين في الادارات الدولية بدأوا يتحدثون، كما مراجع دينية مسيحية عالمية عن استهداف للمسيحية يقوم به الاسلام او ناطقون باسمه.

مصادر
النهار (لبنان)