للذين يتعالون على الحسابات الانسانية ولا يستوقفهم إلا الحساب «السياسي»، يكفي شيء من التمعّن في ما حصل في بريطانيا يوم أمس الأول.
في شمالها الاسكوتلندي كانت تنعقد قمة للفقر والبيئة، هاجسها الضغط على الولايات المتحدة لدفعها الى الاكتراث بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية والصحية للبشر. وبدا هذا، من لحظاته الأولى، كأنه ضغط على المنطق الأميركي القاضي بتركيز الاهتمام على الارهاب ومكافحته دون سواهما من القضايا. لكن بينما كانت القمة تنعقد، يقف فيها توني بلير بعيداً من جورج بوش، كانت عمليات إرهابية متزامنة تضرب العاصمة لندن وتمنعها من الاحتفال بانتصارها الأولمبي الكبير.
والآن، بات يمكن القول ان الضربة المذكورة تزكية صافية للمنطق الأميركي ذاك، وتعزيز للقائلين بتوحيد أوروبا، في ما خصّ القضايا العربية والاسلامية، وراء مواقف واشنطن في أكثر تجلياتها تشدداً. أما أحوال الجاليات العربية والإسلامية في بريطانيا وفي أوروبا فيرجّح أن تشهد تردياً ينوء بثقله على الملمح العام للحقوق المدنية والحياة الديموقراطية. وقد تبدأ الوجهة الجديدة باعتماد بطاقة الهوية، أو باجراءات مشابهة، وقد يظهر عنصريون استفزازيون هنا وهناك، وتعديات تتناثر هنا وهناك، ولسوف تطلع الأصوات التي تذكّر بمجزرة مدريد في آذار (مارس) 2004، أو بمقتل السينمائي الهولندي فان غوغ، أو بمشكلة الحجاب في فرنسا...
قد يقال، بشيء بعيد من الصحة، ان العلاجات الأمنية لا تحل وحدها المشكلة، وآخر الأدلّة جريمة لندن نفسها. ولنا جميعاً أن نسخر من عبارة سخيفة كعبارة بوش عن «أن العالم غدا أشد أماناً من ذي قبل». لكنْ ما هكذا تفكّر الشعوب والجماعات الجريحة والغاضبة، خصوصاً أنها أصيبت بالضربة قبل أن تستكمل خروجها من عُظام ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) ومجزرة مدريد.
وأغلب الظن ان لندن التي أطلقت التظاهرة الاحتجاجية الأكبر ضد حرب العراق ستصبح لندن أخرى. وأغلب الظن ان عمدتها كين ليفنغستون، الذي تباهى بصداقة الشيخ يوسف القرضاوي، سيخلط أوراقه ويعيد حساباته.
وهو مدّ رهيب يتطلب من العرب والمسلمين ان يقاوموه سواء في بلدانهم الأصلية أو في بلدان هجرتهم، خصوصاً منها بريطانيا. وهي مقاومة ينبغي أن تكون جهيرة وصريحة، لا تعلل النفس بـ «النموذج» الاسباني حيث تأدّى عن عملية إرهابية سحب مدريد قواتها من العراق، ولا تخفف مسؤولياتها برميها على سياسات توني بلير في بلاد الرافدين.
فالحالة الاسبانية لن تتكرر في بريطانيا تبعاً لاختلاف التركيبين السياسي والثقافي للبلدين، ولطبيعة الأحزاب السياسية في كل منهما. وهذا فضلاً عن تصلّب القناعة القائلة بعدم جواز مكافأة الارهابيين. أما أن تكون سياسات جورج بوش وتوني بلير مرفوضة في العراق فلا يجيز، في مطلق حال من الأحوال، التساهل مع هؤلاء القتلة الذين يخرجون من بيننا ويقولون انهم يدافعون عن قضايانا فيما يقتلون بشراً أبرياء. وهي، في آخر المطاف، مسؤوليتنا التي إما ان نرتفع الى مستواها، وإما أن ننزوي في هذا العالم وعنه انزواءً اخترناه بأنفسنا يفضي بنا الى عفن كامل.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)