ان يتحدث المسؤولون السوريون عن اعتبارات امنية ادت الى الازمة المستجدة على الحدود مع لبنان، فهذا من حقهم. ولكن ثمة تصريحات تعكس انطباعا مختلفا يتقاطع شكل او بآخر مع حديث عن “اعمال تضييق وضغط متعمدة” تتمثل بصفوف طويلة للشاحنات تمتد كيلومترات على الحدود بقاعاً وشمالاً، ويشير الى ازمة سياسية اكثر مما يعبر عن اجراءات امنية. فعندما يتحدث نائب وزير الخارجية السوري السفير وليد المعلم عن “قلة الوفاء التي تسبب غصة”، والامين العام للمجلس الاعلى السوري – اللبناني نصري خوري عن “مناخ في الرأي العام السوري ضاغط على الدولة نتيجة بعض الاجواء ضد سوريا في لبنان”، فان في مثل هذا الكلام ما يوحي، بل ما يؤكد، ان القضية ليست امنية بحتة بمقدار ما تنم عن ازمة سياسية. مرة جديدة، من حق الادارة السورية ان تتخذ الاجراءات الضرورية في مواجهة ازمة ما، امنية كانت ام سياسية، ولكن ما يجري على الحدود، لا يمكن في النهاية ان يؤدي الى نتيجة لمصلحة اي من البلدين. فالمتضررون من الاجراءات الجديدة هم سوريون ولبنانيون وسواسية في المعاناة، والطريق لا تفتح امام الشاحنة السورية وتغلق امام “شقيقتها” اللبنانية والقاسم المشترك هو وجهة السير. من المصنع في اتجاه جديدة يابوس. من بيروت الى دمشق. ما ورد عن “قلة الوفاء” و“المناخ الضاغط في الرأي العام في سوريا” في كلام وليد المعلم ونصري خوري ينم عن مشكلة سياسية لا يمكن ان تعالجها الاجراءات الامنية. لقد اختلطت السياسة بالعلاقات الانسانية بين الشعبين الشقيقين.واللبنانيون مسؤولون عما آلت اليه الاوضاع تماما كما السوريون واكثر. لم يحاولوا تحييد العلاقات بين الشعبين عن الازمة التي استجدت بين الحكام والسياسيين منذ انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان الماضي بقرار شخصي من الرئيس بشار الاسد. مسألة العمالة السورية في لبنان لن تكون عقبة في وجه اعادة “تطبيع” العلاقات، “رأس مالها” تنظيم هذه العمالة عبر وزارة العمل من جهة، وتحييد العمال عن السياسة وعدم زجهم في متاهات “الامن” من جهة اخرى.

من الافضل تركهم وشأنهم يسعون وراء الرزق الحلال واسقاط الحجج التي يتلطى وراءها اصحاب الشعارات العنصرية غير المبررة بأي شكل من الاشكال. وفي داخل “الرأي العام” الذي اشار اليه نصري خوري، كانت الانتقادات اللبنانية لـ“الوجود العسكري والمخابراتي السوري في لبنان” مقبولة وتلقى تفهما على حد تعبيره، ولكن، بعد الانسحاب لم يعد هذا “الرأي العام” يجد مبررا لها. وفي كل الحالات فان المشهد على الحدود، فيه ادانة للبنان وسوريا على حد سواء، وهو ان دل على شيء، فعلى ان كل الاتفاقات والمعاهدات التي وقعاها لم يظهر لها اثر، علما انها يفترض ان تتضمن آلية لحل الأزمات... وإن دل هذا المشهد على شيء فانما على ان النظامين في البلدين فشلا منذ ثلاثة عقود على الاقل، في بناء علاقات اخوية ومميزة حقا، كما كانوا يدعون. كانت العلاقات "الشعبية"، اذا صح التعبير، على مر السنين اقوى من العلاقات بين الانظمة. في اسواق “الشام” يتوحد اللبنانيون والسوريون. لا مشكلة بينهم على الاطلاق. واكثر النقاشات حدة، لا يتعدى “الاسعار” وكم تساوي في اللبناني والسوري او الدولار... عندما "تتعرقل" على الحدود، تختفي حركة الذهاب والاياب وتعلو “الصرخة” في اسواق الحميدية والحمرا والمرجة وابو رمانة كما تعلو في اسواق بيروت التي غابت عنها حركة السيارات السورية وخصوصا ايام الجمعة من كل اسبوع، الاضرار مشتركة طبعا.

هذه الازمة ستنتهي. فالتاريخ علمنا ان ما من ازمة حدودية الا انتهت. التفاهم قدر البلدين، والتكاذب السياسي لا يقيم علاقات مميزة. فليترجم اصحاب الشعارات شعارات “الاخوة والتعاون والتنسيق ووحدة المسار والمصير”، وخصوصاً في لبنان، ليترجموا شعاراتهم، ليقبلوا على دمشق وليسألوا ما المشكلة؟! كل الاتصالات الخجولة التي أجريت لم تصل حتى الى “المسكنّات”. ها هي أزمة الحدود تصل الى البحر حيث لم تكن هناك معابر ولا حدود ولا خطوط عسكرية قبل الازمة الاخيرة في “البر”... كان بعض الصيادين في “الاتجاهين” يضل الطريق ويتجاوز "حدود" البحر وكان “الخفر البحري” يكتفي احياناً بالسؤال عن هوية الصيادين. هنا تبدو المشكلة أكثر فأكثر مشكلة “مناخ” اكثر منها مشكلة أمنية، وفي الحالين يكمن الحل فقط بالتعاون والتنسيق حقاً هذه المرة، أقله كما يحصل على الحدود مع العراق.

ولعل أسوأ ما في هذه الازمة توقيتها، رئيس حكومة تصريف أعمال لا حول له ولا قوة. ورئيس حكومة مكلف في “الوضعية” نفسها. نجيب ميقاتي اتصل مرتين الاسبوع الماضي بصديقه الرئيس بشار الاسد فكان الجواب أن “القضية امنية” وفؤاد السنيورة قال انه سيزور دمشق بعد تأليف الحكومة ونيلها الثقة. وتحدث بلهفة وبصدق عن سوريا مؤكداً: «نحن دائماً نقول إن للبنان، باستثناء البحر، جاراً واحداً هو سوريا». وفي المرحلة الانتقالية، لا من يصرف الاعمال، ولا “المكلف”، ولا وزير الاشغال العامة والنقل عادل حمية الذي اتصل أمس بنظيره السوري مكرم عبيد، ولا الامين العام للمجلس الاعلى اللبناني – السوري، يمكن أن يحلوا المشكلة، كل على طريقته، نصري خوري يقولها صراحة: المطلوب خطوة من لبنان في اتجاه سوريا والتفاهم على سبل حل المشكلة وأنه “جاهز” لتنفيذ أي قرار سياسي “فلست صاحب القرار”...

وسط هذه الاجواء، ثمة سؤال كبير هو: ما المانع في انعقاد قمة لبنانية – سورية؟ ألا تستحق التطورات الدراماتيكية المتسارعة منذ اشهر مثل هذه القمة؟ وهل ما يَحُول دون أن يبادر لبنان الى طلب انعقادها وعلاقات الرئيس اميل لحود مع الرئيس الاسد متينة وعميقة ولا تشوبها شائبة؟

اذا كان هناك ما يحول دون مثل هذه القمة وفي هذه الظروف بالذات، ما هو وما هي اسبابه؟

من حق اللبنانيين بالطبع، وكذلك السوريين، أن يعرفوا الجواب!

مصادر
النهار (لبنان)