تبدي الإدارة الاميركية اهتماما مبالغا فيه بمنطقة المغرب العربي التي تعتبرها منطقة جيوسياسية وحساسة للغاية‚ وهي بمثابة خليج القارة الافريقية لما فيها من ثروات باطنية لم يسثتمر الكثير منها‚ وهذا الاهتمام الاميركي بالشمال الإفريقي ليس وليد الساعة‚ بل يعود إلى ما بعد الحرب الكونية الثانية عندما بدأت اميركا تتطلّع الى العالم الخارجي‚ وتقطع الطريق عن الإيديولوجيا الحمراء التي كانت تنشرها موسكو هنا وهناك‚ و عندما استقلّت تونس قام الرئيس التونسي تاريخئذ الحبيب بورقيبة بزيارة واشنطن والتقى الرئيس الاميركي ايزنهاور الذي طلب منه أن يعمل بورقيبة على إقامة تحالف بين الدول المغاربية وأميركا من جهة أخرى‚ وبعد مضيّ أربعة عقود على هذه الفكرة عاودت واشنطن طرح الفكرة على أكثر من رئيس مغاربي ولكن هذ المرة على شكل شراكة اميركية - مغاربية لقطع الطريق على مشروع الشراكة الأوروبية -المغاربية ‚

وتجدر الإشارة إلى أنّ واشنطن تبدي حماسها الشديد لفكرة الاتحاد المغاربي‚ ومن أجل إحقاق المصالحة بين الدول المغاربية و ردم الهوّة فيما بينها تمّ تنظّيم ندوة دوليّة في واشنطن في الخامس من شهر نوفمبر في السنة الماضيّة حول الاستثمار في المغرب العربي وشارك في هذه الندوة كل من الجزائر والمغرب وتونس‚ وحسب الرسميين الاميركيين فانّ هذه الندوة التي رعتها الإدارة الاميركية تناولت العراقيل التي تحول دون تفعيل الاستثمار في منطقة المغرب العربي كما تناولت الندوة موضوع الخلافات السياسية بين دول الإتحاد المغاربي وسبل معالجتها‚ و قد أعقب هذا الاجتماع اجتماع آخر في شهر ابريل الماضي وكان الاجتماع الثاني بحضور ستيوارت ايزنستات مساعد كاتبة الدولة الاميركية للخزينة و تناول اللقاء الثاني كيفية استثمار مليارين و نصف المليار من الدولارات في منطقة المغرب العربي‚ وقد وجّهت الدعوة لموريتانيا لحضور الندوة الثانية كملاحظ‚ وطالب هذا المسؤول الاميركي أن تكون هناك وحدة بين الأقطار المغاربية معتبرا أن مثل هذه الوحدة ستخدم الاستثمار الاميركي‚ ويرى مراقبون في المغرب العربي في هذا التوجه الاميركي أنّه لا يدخل في باب الحرص على الاتحاد المغاربي بقدر ما إنّ واشنطن تريد الكعكة المغاربية برمتها‚ فهي لا تريد أن تكون لها حصّة في الجزائر‚ ولفرنسا مثلا حصة في تونس وموريتانيا‚ فهي تريد الأخضر واليابس في منطقة المغرب العربي‚ وهذا مايفسرّ هجوم الشركات الاميركية على تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ونفس هذه الشركات الاميركية المتعددة الجنسيات بدأت تعود إلى ليبيا و لابدّ أن نشير إلى أنّه ورغم الحصار الاميركي المفروض سابقا على ليبيا بسبب أزمة لوكربي كانت الشركات النفطية الاميركية تشتري حصة الأسد من النفط الليبي ‚

وهناك العديد من الدراسات الاميركية التي تركّز على حجم الثروات الهائلة الموجودة في المغرب العربي من نفط وغاز وحديد وفوسفات ويورانيوم و ما إلى ذلك من الثروات الباطنية ‚ وبالإضافة إلى عامل الثراء هناك عامل الموقع الجيوسياسي‚ ولا يمر شهر الاّ وتشهد مياه البحر الأبيض المتوسط مناورات عسكرية بحرية بين القوات الجزائرية والاميركية‚ أو بين القوات المغربية والقوات الاميركية ‚ فهذا المنفذ البحري الهام يجعل الآلة العسكرية الاميركية البحرية على تماس جغرافي بأوروبا‚ وعلى تماس جغرافي بإفريقيا, وعلى تماس جغرافي بالشرق الأوسط وهي كلها مناطق تعني الكثير للاستراتيجية الاميركية التي كثيرا ما تركّز على ضرورات المنافذ المائية لتكريس الوجود الاميركي في مختلف نقاط العالم ‚

وتبدو الدول المغاربية متحمسّة للعروض الاميركية‚ وهي في مجموعها بات الرضا الاميركي يعني لها أكثر مما يعنيها الرضا الفرنسي الذي لم يعد مجديّا في ظلّ عولمة اميركية الشكل والمضمون‚ وترى الدول المغاربية أنّ هذا التوجه الاميركي لتوحيد المغرب العربي والاستثمار فيه من شأنه أن يساهم في حلحلة العديد من المشاكل التي تتخبّط فيها هذه الدول‚ وتتصوّر هذه الدول أنّ واشنطن ستعطيهم دون مقابل متناسين انّ المقابل سيكون كبيرا للغاية في ظلّ هشاشة الوضع السياسي المغاربي ‚

والعجيب كما يقول سياسي مغاربي أنّ الدول المغاربية لا تجتمع فيما بينها لحل مشكلة انهيار الاتحاد المغاربي‚ وتنتظر من واشنطن أن تعمد الى مساعدتها على تفعيل الاتحاد المغاربي‚ وهي خطوة ان تمت ستصبح منطقة المغرب العربي بموجبها قاعدة اميركية تماما كتركيا‚ والغريب أنّ معظم الدول المغاربية معجبة بالنموذج التركي و خصوصا الارتماء التركي في الحضن الاميركي والأوروبي في نفس الوقت !

و تدور في المغرب العربي حرب خفيّة وباردة إلى حدّ ما بين فرنسا والولايات المتحدة الاميركية والتي بدأت تنعكس على العلاقات الفرنسية - المغاربية بشكل عام مؤشرة إلى أن اللاعب الاميركي استطاع بجدارة التسلل إلى الملعب المغاربي والذي ما فتئت فرنسا تؤكد أنه من صلاحياتها دون غيرها‚ و فرنسا الرسمية التي تشن تصريحات يفهم منها عدم رضاها على وضعية حقوق الانسان في تونس وموريتانيا والجزائر والمغرب وليبيا‚ ترفض الجهر بامتعاضها من التسهيلات التي بدأت تعطيها بعض هذه الدول المغاربية لأميركا وموضوع حقوق الإنسان في المغرب العربي الذي تثيره فرنسا هو مجرّد لهو حديث لأن الكلاب الفرنسية أفضل حالا من المهاجرين من المغرب العربي في فرنسا ‚ ومخاوف فرنسا من فقدها للمغرب العربي متشعبّة منها السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الجيوسياسية ‚

إلى وقت قريب كانت فرنسا هي المحتكر الوحيد للأسواق المغاربية تمدها بكل صغيرة وكبيرة وحتى تبقي على هذا الاحتكار كانت تقدم مساعدات لبعض الدول المغاربية لإبقائها دوما في الدائرة الفرنسية‚ فعلى سبيل المثال قدمت فرنسا منذ 1994 مساعدات كمنح لموريتانيا قدرت بمبلغ 900 مليون فرنك‚ لكنّ هذه المساعدات تقلصت بعد بداية التقارب الموريتاني- الاميركي وفتح واشنطن أبوابها لنواكشوط عقب استئناف علاقاتها مع الدولة العبرية‚ صحيح أن واشنطن تبحث عن المواقع التي فيها موارد أولية لكن موريتانيا تتمتع بموقع استراتييجي مهم للغاية بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية ‚

و في تقرير سابق كان قد كتبه أحد المستشارين للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران جاء فيه أن كل فرنك تدفعه فرنسا لإفريقيا - والمقصود هنا شمال إفريقيا أيضا أي المغرب العربي -تسترجع مقابله فرنسا عشرة فرنكات ! وذلك في إشارة إلى حجم الأرباح التي تجنيها فرنسا من إفريقيا ‚ وحتى الموارد الطبيعية كالنفط والغاز فان الشركات الفرنسية هي التي كانت مسيطرة عليها تنقيبا وتسويقا واحتكارا أما الآن فالشركات الاميركية باتت الأكثر حضورا في مواقع النفط والغاز وعلى الأخص في الجزائر ‚

وعلى الصعيد الثقافي فان اللغة الأنجليزية باتت تنافس اللغة الفرنسية التي كانت سيدة الموقف وبلا منازع ولأجل هذا تحركت الدوائر الفرنسية ومنها منظمة الفرانكفونية العالمية لإعادة الاعتبار للغة الفرنسية ووقف الزحف اللغوي الانجليزي للمغرب العربي ‚

وفرنسا التي حظرت اللغة العربية في المدارس الفرنسية تطالب دول المغرب العرب بضرورة إعطاء تسهيلات للغة الفرنسية في المغرب العربي وجاءها الرد هذه المرة من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي قال ان على فرنسا أن تتصالح مع اللغة العربية في مدارسها وبعد ذلك تطالبنا بتسهيلات للغة الفرنسية ‚

وعلى الصعيد الجيوسياسي فإن فرنسا تعتبر المغرب العربي هو بوابتها على إفريقيا التي فقدت فيها فرنسا كل أو بالأحرى جل مواقعها و إخراجها من هذا الحزام هو بمثابة إنهاء وجودها التاريخي العريق في إفريقيا ‚

وتخشى الدوائر الفرنسية أن يؤدي تدفق الشركات الاميركية على المغرب العربي إلى نكسة للاقتصاد الفرنسي الذي يعوّل كثيرا على الأسواق المغاربية ومعروف أن هذه الأسواق تستورد كل صغيرة وكبيرة من المواد الغذائية والزراعية والأدوات الكهربائية و السيارات وغيرها من فرنسا ‚وقد بات مألوفا بين المغاربيين النكتة التي تقول ان البواخر الفرنسية المحملة بالحنطة لو تأخرت يوما واحدا في الوصول إلى الموانئ المغاربية فان الشعوب المغاربية لن تجد ما تخبزه وبالتالي ما تأكله‚ وهذا التداخل بين فرنسا واقتصاديات الدول المغاربية أفرز طبقة رسمية متنفذة تقتات من السمسرة والعمولات المقدمة من الشركات الفرنسية الى درجة أن بعض المسؤولين في بعض الدول المغاربية يرفضون شراء بضائع معروضة عليهم من دول غير فرنسا بأثمان زهيدة لكن العروض تهمل نظرا لأنّ المعنيين بالاستيراد لا يرجون عمولة مزجاة من الدول العارضة وهؤلاء تربطهم بالدوائر الفرنسية أوشج العلاقات ولديهم في باريس حسابات يسهل الضخ فيها بعيدا عن أعين المواطنين المسحوقين في المغرب العربي ‚

وفي الوقت الذي تسعى فيه باريس لتجذير مصالحها الاقتصادية والثقافية في المغرب العربي‚ فإنّ لواشنطن بعدا أخر غير هذين البعدين - وإن كانت عينها جاحظة على الموارد الطبيعية الغنية في الشمال الإفريقي - وهو البعد الاستراتيجي حيث تشير بعض الدراسات الاميركية ومجلة فرين أفرز الاميركية المتخصصة في القضايا الدولية أن منطقة المغرب العربي حساسة لدوائر القرار الاميركية التي وضعت دراسة برمتها في كيفية زحزحة فرنسا عنها‚ ويرى بعض المراقبين في المغرب العربي أن الفترة المغاربية المقبلة ستكون اميركية خصوصا وأن الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي علاقته بالاميركان أقوى منه بالفرنسيين فهو أكمل تكوينه العسكري في الولايات المتحدة الاميركية ولدى عودته من هناك بدأ نجمه السياسي يسطع وبدأ نجم بورقيبة الفرانكفوني -الفرنسي- يخفت‚ والملك محمد السادس كما أبوه علاقته بالاميركان أمتن إلى درجة أن الكونغرس الاميركي اعتبر المغرب بلدا نموذجيا في الوقت الذي تتهم فيه وسائل الإعلام الفرنسية الرباط بأنها تنحر حقوق الإنسان جهارا نهارا‚ وعبد العزيز بوتفليقة يحظى بدعم اميركي مباشر إلى درجة أن المناورات العسكرية البحرية بين القوات الاميركية والجزائرية على السواحل الجزائرية قد تكثفّت بشكل ملحوظ في المدة الأخيرة‚ والتطبيع بين واشنطن ونواكشوط يضطرد بسرعة‚ الأمر الذي أغاظ باريس وجعلها تعتقل بعض المسؤولين الموريتانيين على أراضيها بدعوى انتهاك حقوق الإنسان في موريتانيا‚ أما ليبيا فهي وجدانيا أقرب إلى واشنطن منه إلى باريس وقد بدأت دوائر اميركية تكشف عن محطات تعاون بين الأجهزة الأمنية في تل أبيب وطرابلس الغرب وتقديم هذه الأخيرة لمعلومات تتعلق بتنظيمات فلسطينية كانت تحظى بالدعم الليبي في يوم من الأيام وشكل دفع ليبيا لتعويضات كبيرة لاميركا ومواطنيها ضحايا قضية لوكربي عودة طبيعية لليبيا إلى المحور الاميركي‚ والزحف الاميركي باتجاه المغرب العربي يتم بسرية مطلقة وتامة إلى درجة أن باريس كلما تستيقظ صباحا تجد أن ضفتها الجنوبية -المغرب العربي - تنزاح بهدوء باتجاه الهوى والهواء الاميركيين‚ وهذا ما يجعل فرنسا متحمسة لفكرة الشراكة بين الإتحاد الأوروبي والدول المغاربية‚ و هذا أيضا ما جعل الرئيس الفرنسي جاك شيراك يفطر في تونس ويتغدى في الجزائر ويتعشى في الرباط‚ لكن ما لم تحققه باريس في مواقع أخرى من العالم لا يمكن أن تحققه في المغرب العربي !!!!

مصادر
الوطن (قطر)