ها هي سياسة الرئيس بوش تجاه الشرق الأوسط تقترب من لحظة الحقيقة. فما إن تُنهي إسرائيل انسحابها من قطاع غزة حتى تتحول الأنظار إلى واشنطن لرصد مؤشرات التحول المحتملة في الاستراتيجية الأميركية. فإلى حد الآن اكتفى بوش بمساندته لرئيس الوزراء أرييل شارون، وحثه الجانب الفلسطيني بالتحلي بالصبر ونبذ استعمال العنف. وفي الوقت نفسه ما فتئ بوش يؤكد على تسوية سلمية نهائية بين الجانبين في صيغة دولتين تعيشان جنبا إلى جنب بما يعنيه ذلك من قيام دولة فلسطينية ديمقراطية وقابلة للحياة على معظم أراضي غزة والضفة الغربية. وبالرغم من هذه التعهدات، إلا أنه لم يوضح كيف سينتقل الطرفان من هشاشة الوضع الراهن إلى تفاؤل الحل المرتقب.

لم يخف بوش عندما قدم إلى البيت الأبيض في يناير 2001 شكه العميق حيال إمكانية تحقيق أي تقدم على مسار "العملية السلمية". ومازلنا نذكر تصريح بوش في اجتماع لمجلس الأمن القومي الأميركي في يناير 2001 قال فيه "لا يمكننا أبداً فرض السلام على الطرفين، إذا كانا لا يرغبان في تحقيقه"، وأضاف أن الرئيس كلينتون بذل أفضل ما لديه للتقريب بين الجانبين، لكن كل شيء تداعى وانهار. فكيف إذن أصبح بوش أول رئيس أميركي يؤيد صراحة قيام دولة فلسطينية تعيش بسلام جنباً إلى جنب مع إسرائيل، وهي الدولة التي يجب، كما قال بوش نفسه، أن تخرج إلى حيز الوجود خلال فترته الرئاسية؟ وبالطبع يكمن جزء من الجواب في أحداث 11 سبتمبر، والجزء الثاني في الحرب على العراق. فرغم أن بوش ومستشاريه المقربين يجتهدون في إنكار أي علاقة بين المأزق الفلسطيني الإسرائيلي وهجمات القاعدة على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر، أو تنامي ظاهرة الإسلام الراديكالي، إلا أنه لا يمكن إغفال التغير الذي طرأ على السياسة الأميركية عقب هجمات نيويورك وواشنطن، حيث بدأت تميل نحو تكريس الأمل عند الفلسطينيين بشأن مطالبهم المعتدلة والمتمثلة في إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي الواقع لم يقم بوش خلال فترة ولايته الأولى إلا بالقليل لتنفيذ "رؤيته" بقيام دولة فلسطينية. والسبب أن بوش كان فاقدا للثقة تماما في زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات. وقد كان واضحا أنه ما لم تتم إزاحة ياسر عرفات، فإن بوش لن ينخرط في أية جهود لدعم حل سلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن جانبه كان أرييل شارون في أحسن أحواله، خصوصا عندما وصفه الرئيس بوش بأنه "رجل سلام". وبعدما أدى موت عرفات إلى انتعاش حقيقي للعملية السلام، فإنه يحق لنا أن نؤيد هؤلاء الذين كانوا يعتبرون عرفات بمثابة حجر عثرة أمام الوصول إلى تسوية، وبأن بوش كان صائبا عندما نأى بنفسه عن السعي للتوصل إلى تسوية في ظل عرفات. وبالرغم من عدم تحقق إنجازات كبيرة على المسار السلمي، إلا أنه لا يمكن إنكار التغير الحاصل حاليا. فعلى سبيل المثال انخفض معدل العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل ملحوظ خلال السنة الجارية، كما استأنفت المحادثات السياسية بين الطرفين، وعقد اجتماع ودي بين بوش والرئيس الفلسطيني الجديد، حيث تكلم بوش خلاله عن أهمية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، بل ذهب إلى أكثر من ذلك عندما أعلن تأييده لإقامة دولة فلسطينية بحدود ترجع إلى خط الهدنة في 1949 وهو ما يعني جل قطاع غزة والضفة الغربية. ومع ذلك فإن هذا الانفراج البسيط، لا يحجب الصعوبات الحقيقية المتبقية.

ففي الوقت الذي يعتقد فيه بعض المتفائلين أن القرار الإسرائيلي بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة ما هو إلا البداية لجولة جديدة من محادثات السلام، يبدي البعض الآخر الكثير من التشكك حول هذا الموضوع. فهم يعتقدون أن شارون يسعى إلى ربح الوقت لا أكثر، وبأن رؤيته للمستقبل لا تشمل سلاما متفاوضا عليه مع الفلسطينيين، بل ترتكز تلك الرؤية على سياسة الأمر الواقع وخلق حقائق جديدة على الأرض. وفي هذا الصدد تسارع إسرائيل إلى الانتهاء من بناء الجدار العازل الذي سيفصل بين المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل والتجمعات السكنية الفلسطينية. أما في الجانب الإسرائيلي من الحاجز حيث يقضم جزء مهم من الضفة الغربية فمازالت وتيرة النشاط الاستيطاني مستمرة دون هوادة. وبخصوص مدينة القدس فلطالما كرر شارون بأنها خارج دائرة المفاوضات مواصلا مساعيه لضم إحدى أكبر الكتل الاستيطانية "معالي أدوميم" إلى المدينة نفسها.

وبالرغم من التعارض الواضح بين رؤية شارون للسلام وتلك التي يحاول بوش تعزيزها، إلا أنه لا يبدو أن بوش يملك استراتيجية ترمي إلى ممارسة الضغط على شارون وجعله أكثر مرونة. وفي الواقع فإن شارون هو من رسم الخطوات على الأرض ودفع بالتطورات في اتجاه قرار الانسحاب الأحادي الذي اتخذه منفردا وساندته فيه الولايات المتحدة، علما أنه تجاوز خريطة الطريق التي شكلت الركيزة الأساسية للجهود الدبلوماسية الدولية. وإذا ما استمرت إسرائيل في اتخاذ المبادرات دون ضغط من أحد، فليس من المرجح أن تنسحب من الضفة الغربية في المستقبل المنظور. وباستثناء ما وعد به شارون بالانسحاب من بعض المستوطنات الصغيرة في شمال الضفة الغربية، فإنه لم يحدد الخطوات المستقبلية ما عدا مطالبته الفلسطينيين بضرورة تفكيك "شبكة الإرهاب". وحسب خريطة الطريق فإنه كان من المفترض إقامة دولة فلسطينية بـ"حدود مؤقتة" مع نهاية عام 2003، لكن الموعد أرجئ إلى نهاية 2005. هذا ولا يرى الفلسطينيون في تجزيء الاتفاق إلا فخا آخر نصب لهم، لذا يفضلون التوصل إلى اتفاق نهائي يضمن حدوداً دائمة لدولتهم. ويعزى التأخير في إعلان الدولة الفلسطينية إلى اعتقاد بوش كما شارون بأن الوقت لم ينضج بعد لإبرام اتفاق سلام نهائي.

ولسوء حظ بوش فقد تعرض مخططه لإعادة تشكيل الشرق الأوسط إلى انتكاسة حقيقية. وهو المخطط الذي كان يعتمد لتحقيق التغير على الإطاحة بالنظام في العراق وشن حرب كونية على الإرهاب، ثم دعم للديمقراطية كحل لمشكلات المنطقة المستعصية، فضلا عن المساندة الخطابية للسلام الفلسطيني الإسرائيلي. وفي الوقت الذي مازال الأمل قائما للتوصل إلى اتفاق سلام بين طرفي النزاع، إلا أن ذلك يتطلب من بوش الكثير من الجهد والالتزام، وهو ما ليس متيسراً في ظل وجود أولويات أكثر إلحاحا في ذهن بوش ليس أقلها العراق.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)