ضمن مفارقة قاسية لحالة الانقسام التي خلفتها طبيعة الاستراتيجية الأمريكية بعد الحرب على الإرهاب، يبدو المشهد الأمريكي في صراع واضح ما بين الإدارة الأمريكية والكونغرس، مما دفع الرئيي الأمريكي جورج بوش لاعتبار نفسه "صاحب القرار" .. بينما يحتشد المتظاهرون خارج مبنى الكونغرس في محاولة للتأثير على المشهد السياسي.

هذه الصورة يقابلها حالة من الانقسام أيضا داخل مساحة الشرق الأوسط عموما، لكنها تدفع نحو الفوضى مع "استباحة الدولة"، او حتى "انتهاء مفعولها" داخل المجتمع، بعد أن تشتت شرعيتها لصالح مرجعيات تعزز الانقسام خارج إطار الدولة. فالمشكلة كما تبدو ليست في انقسام الشارع وهو أمر اعتيادي في ظل تعدد المصالح في المجتمع، لكن الانقسام الذي يحتمي بالديمقراطية يمارس فعلا استبدادبا عندما ينقل التعارض إلى بنية الدولة، محاولا احتكار "المظهر الحقوقي" للمجتمع، وتفتيت آلياته أو حتى إذابتها داخل ولاءات قديمة.

ففي الانقسام الحاصل داخل العراق أو فلسطين أو لبنان مؤشرات توضح أن الأمر تجاوز "الخيار السياسي"، وهو ينطلق من تصورات "بناء الهوية" دون النظر إلى ضرورة وجود جامع عام في الدولة، قادر على إعطاء هذه الهوية فعاليتها دون أن تتشتت أو تضع المجتمع في حالة من التفتيت.. فالتعبير العام اليوم عن ممارسة الحقوق يتجه مباشرة للتخلي عن "الانتماء الحقوقي" والبحث في الصيغ التي سبقت الدولة، وتشكيل مؤسسات بديلة لا تنتمي عمليا إلى فئة "المنظمات الأهلية" لأنها تحاول اقتطاع مهامها من "المؤسسات العامة"، وتصل إلى تمويل نفسها من المال العام.

وإذا كان هذا الواقع يدفع أحيانا إلى البحث في تاريخ "الدولة الحديثة" في الشرق الأوسط عموما، وفي قدرتها على التعبير عن مصالح المجتمع ككل، فإنه أيضا يثير إشارة استفهام حول أساليب التعامل معها في ظل "الفورة الديمقراطية" التي تدفع نحو اقتسامها بدلا من "اقتسام السلطة"، وباتجاه احتكار نشاطها عوضا عن الصراع من أجل برامج لتطوير أدائها والحفاظ على حقوق المواطن من خلالها.

عمليا فإن "التجارب الديمقراطية" التي شهدنها في السنوات الأربع الماضية اتجهت نحو "الدولة" وليس السلطة، وهي لم تكن معنية بالحفاظ أو تكريس "القيم" الخاصة بمؤسسات "الحداثة" التي أنتجت الفعل الديمقراطي، إنما باعطاء المرجعيات "القديمة" حقا فوق الدولة، قادر على رسم أي انقسام داخل الشارع خارج إطار الفعل السياسي ووضعه في إطار الحرب "الأهلية" أو "المذهبية" أو غيرها من المصطلحات.

ربما يرى الكثيرون أن أزمة الدولة كانت في عدم قدرتها على الدخول ضمن الثقافة الاجتماعية، أو حتى في قدرتها على التعبير عن الجميع وأداء مهامها للجميع، لكن "المعادلة الديمقراطية" ضمن التجارب القريبة اتجهت نحو صياغة "مؤسسات" دون الدولة معتبرة نفسها "الوريث" للمراحل السابقة.. فهذه "المعادلة الديمقراطية" لا تعترف أساسا بأنها تعمل على أرض مشتركة مع الجميع، وأن غايتها في النهاية لا تتناقض مع "الدولة" .. هذه "المعادلة" أيضا تملك حالة إطلاقية تحاول مسح كل المسائل الأخرى.. لذلك فإن الانقسام الذي نشهده هو "فوضى" وليس صراعا سياسيا، وهو يحتاج بالفعل لوضعه في إطاره الحقيقية للحفاظ على "الدولة" بدلا من تشتيتها.