محقّق جنائي سابق في ظلّ الجمهورية الديمقراطية الألمانية (ألمانيا الشرقية), وصحافي بعد اتحاد الألمانيتين, يورغن كاين كولبل هو من بصم على تحقيق مضاد صاقل في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. التحقيق الذي قدمت تفاصيله شبكة فولتير للجمهور العربي إبان مؤتمر عرف تغطية إعلامية كبيرة بتاريخ 7 ماي الماضي في مدينة دمشق. في لقائه مع سيلفيا كاتوري, والذي نقدم تفاصيله اليوم, يثير وإيّانا يورغن الدور السياسي الذي لعبته اللجنة التي عيّنتها هيئة الأمم المتحدة والدور المحتمل الذي ربما تكون لعبته إسرائيل في الجريمة المذكورة أعلاه.
سيلفيا كاتوري : أليس من المستغرب أن يعمد صحافي حرّ مستقل إلى إجراء تقصيات وأبحاث حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بالرغم من وجود لجنة تحقيق دولية وُضعت ميزانية كبيرة تحت تصرفها ؟
يورغن كاين كولبل : ماذا ينفع عمل مجموعة من المحققين الاختصاصيين ذوي الخبرة مع كل إمكانياتهم اللوجستية وتقنيات البحث الجنائية والوسائط الأخرى للتحقيق، إذا كان هذا التحقيق ينتهك عمداً كل مبادئ وقواعد إجراءات التحقيق العادية؟ يتجه المحققون عادة أثناء تحقيقهم في جرائم مجهولة الفاعلين ، إلى تتبع الاحتمالات المختلفة حتى يستطيعوا أن يقتفوا أثر المجرمين ومن يقف خلفهم . وفي موضوع اغتيال الحريري بالذات ، كان من المفترض أن تؤخذ بعين الاعتبار منذ اليوم الأول لعمل اللجنة اتجاهات هامة في سير إجراءات التحقيق بالتوازي ، منها على سبيل المثال: الموساد ، السي آي إي ، شركاء التجارة والمال ، واللبنانيون في المنفى . ولكن لم يحدث شيء من هذا . وهكذا وجدت نفسي مندفعاً لمتابعة أبحاثي حول الاحتمالات الهامة من وجهة نظري . وهكذا ظهر الكتاب الأول حول جريمة اغتيال الحريري.
كاتوري : كيف خطرت لك فكرة الاهتمام بموضوع هام كهذا ؟
كولبل : أود أن أؤكد بكل وضوح أن شعوراً بالضيق انتابني بعد الجريمة مباشرة لأن محققي الأمم المتحدة اندفعوا مباشرة وبحماس لمتابعة الأثر السوري فقط دون غيره من الاحتمالات الأخرى ولم يكن ذلك قطعاً فشلاً تكتيكياً في إجراءات التحقيق وإنما كان أيضاً عملاً إجرامياً مقصوداً ومقبولاً دولياً من أجل تزوير و"فبركة" الأدلة استجابة لرغبة الأمريكيين وخدمهم ، وهكذا تم تسييس هذه الجريمة على اعلى مستوى من قبل ذوي الياقات البيضاء من أجل تبرير غزوهم غير الشرعي للعراق في ربيع 2003. وارى شخصياً أن الأمر في كلتا الحالتين لايتعدى عملية خداع بدائية بدعوى أنهم يمثلون الأمم المتحدة ويسعون لنشر الديمقراطية الحديثة وهم ليسوا في الحقيقة سوى هواة لفرض سيطرتهم على الكرة الأرضية بكاملها واستعباد شعوبـها.
وحتى أجيب على سؤالكِ حول موضوع الحريري بشكل نهائي أقول :
_ لقد بدت لي هذه اللجنة كأنها " بوسائطها الهائلة " تهدف إلى التضليل حتى تؤكد بذلك الخداع المتعمد وتكمله على مثال واقعة اغتيال الحريري . وهذا مايمكن أن نصفه بأنه جريمة من خلال كشف جريمة أخرى تبعث فيَّ القشعريرة حتى الآن.
كاتوري : هل أجريت أبحاثاً في عين المكان ؟
كولبل : بالطبع ، وسأذكر ذلك بالتفصيل في كتابي القادم . ولكن دعيني أقدم ملاحظة الآن حول الأدلّة الجرمية المادية التي جمعتها اللجنة الدولية . يطرح السؤال نفسه بكل قوة فيما إذا كان العنصر التقني الجنائي ذا قيمة . ماذا حصل لهذه المواد أثناء حرب تموز الأخيرة ؟ ماذا أخذ معه المحقق البلجيكي سيرج براميرتز من هذه الأدلة المادية حينما هرب من القنابل الإسرائيلية إلى قبرص بعد يومين فقط من اندلاع العمليات القتالية ؟ لاشك أن أيادٍ كثيرة امتدت إلى هذه الأدلة خلال وابل القنابل والصواريخ الإسرائيلية . وهذا طبعاً لايمكن حصره . ومايستحق العقوبة أيضاً تناسي تلك العلاقة الوثيقة بين ذلك الصفيق الوقح المتبجح جون بولتون ، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة وبين سيرج براميرتز ! إن بولتون الذي طلب خليفة مستنسخاً عن ميليس وحصل مباشرة على براميرتز ، لايزال حتى الآن يؤكد رضاه عن عمل المحقق البلجيكي . يجب أن تقرع أجراس الإنذار لأن بولتون هذا هو أحد أهم مجرمي الحرب الأحياء فهو الذي قام بدور رئيسي في تزوير الأدلة التي اتخذت حجة لغزو العراق . وكما نرى فإن لجان التحقيق الدولية لم تستطع حتى الآن أن تقدم شيئاً يساعد على إلقاء الضوء على المجرم الحقيقي . لقد فشل السيد ميليس فشلاً ذريعاً في العام الماضي لأنه أهمل تحذيرات واضحة واعتقد أنه بسند من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة يستطيع أن يرضخ دمشق لمشيئة بوش وأتباعه. لكن "عمله" لايستحق أن يكون إلا على مزبلة علم الجنايات أو أن يكون مثالاً مرعباً في تدريس الحقوق وعلم الجنايات ، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار استماعه إلى أولئك الشهود المزيفين .
كاتوري : ماهي استنتاجاتك الهامة وإلى أي مدى تتعارض مع استنتاجات السيد ميليس؟
كولبل : ليس بين استنتاجاتي واستنتاجات السيد ميليس أي شيء مشترك. إنه من المؤسف أن كتابي " اغتيال الحريري " لم ينشر بعد إلا بالألمانية والعربية ، لأن هذا السؤال يطرح عليّ دوماً. كذلك لم يكن من أهدافي مطلقاً أن أعمل على تفنيد أو تكذيب تقريري ميليس ، وإنما كان هدفي أن أثبت عدم جدوى تحقيقات اللجنة الدولية, هذه التحقيقات التي كانت من وجهة نظر استراتيجية جنائية أشبه ما تكون بسيارة في شارع ذي اتجاه واحد وبالاتجاه المخالف ، وذلك فقط بإثبات أن هناك احتمالاً آخر كبيراً يجب أن يُتبع أثره . ولايُعقل بحال من الأحوال ، في الظروف الطبيعية ، أن يتناسى أو يتحاشى بكل بساطة ، محققون يعملون بشرف ، تلك الأدلة والاحتمالات التي استطعت أن أتوصل إليها . ولكن هذا الإهمال بالذات هو أكبر دليل على أن لجنة الأمم المتحدة تعمل على نحوٍ واحد لتنفيذ توجهات مسبقة . وهذا هو السم الزعاف لعمليات التحقيق الجنائي الموضوعي في الظروف العادية ، ولكن هذا الأسلوب هو إكسير الحياة لأولئك " المحققين الذليلين " الذين يسعون إلى إرضاء المصالح السياسية لأسيادهم . إلا أنه على هؤلاء الأسياد وخدم الأنظمة الذين يسبحون في التيار كالأسماك الميتة فاغرةً أفواهها، أن يصفوا حساباتهم مع ضمائرهم إذا كان لديهم من ضمير .
إني أطالب في هذه المناسبة ، باستجواب ريتشارد بيرل أو دانيال بايبس ، الذي كان سيدخل السجن حتماً بتهمة التحريض والإثارة ، على الأقل في ألمانيا لو كانت الظروف غير هذه الظروف أو عبد النور أو ناجي أو كال ومن لفّ لفّهم . كل هؤلاء والآخرون الذين ذكرتهم في كتابي كانوا يضعون الحريري على قائمة الإعدام ويطالبون بانقلاب في لبنان وأشياء أخرى ! لقد خططوا نظرياً لاستخدام العنف والبعض منهم قتل الحريري بأقواله أو وضعه على قائمة الاغتيال . لماذا لم يستجوب حتى الآن واحد من هؤلاء المحققين الأبطال الذين يعرضون حياتهم للخطر في لبنان، أي واحد من تلك النماذج ؟ لقد أصبحت اللجنة مثاراً للسخرية لأنها تحدد مسبقاً ولو بشكل غير مباشر ، ماتريد ومالاتريد.
إن الصحافة الرصينة مطالبة بالضغط على لجنة الأمم المتحدة ، ولا أقصد هنا في مجال التفاصيل والأدلة وأقوال الشهود ، وإنما أقصد موضوعية التحقيق التي هي غير متوفرة لأن المحققين يغلقون أعينهم عن قصد أمام أثر جرمي هام . وهكذا يستطيع المسؤولون ومن بينهم الرئيس شيراك ، أن يتكلموا بكلام جميل .
كاتوري : هل توصلت بأبحاثك إلى أن سورية ليست مسؤولة عن مقتل الحريري؟ كما كان السيد بوش يؤكد !
كولبل : إن أتباع بوش يعرفون المكيدة التي دبّروها والمؤامرة التي حاكوها عندما جعلوا رئيسهم يقول ولمّا يبرد جثمان الحريري بعد ، إن دمشق هي التي تقف خلف هذه الجريمة . وتردد الصدى سريعاً لدى جماعات لبنانية درزية وأخرى معارضة لسورية . إن الأغنية التي أطلقها المحقق الأول الإيرلندي بيتر فيتنـر جيرالد في آذار 2005 حول فوضى السلطات اللبنانية وإهمالها في حفظ موقع الجريمة وإجراء التحقيقات فيه، لم تكن إلا نتيجة أسلوب استعماري متعجرف . كان العالم كله يعرف أن الشرطة وأجهزة الاستخبارات اللبنانية تفتقر إلى الخبراء المختصين والتجهيزات التقنية وأساليب التحقيق القضائية أو التقنية الجنائية ، قياساً بالمعايير الأوربية . كذلك تفتقر السلطات اللبنانية المختصة إلى اللوجستية والخبرة التكتيكية الجنائية وكيف يتم التصرف مع هذه الجرائم الكبيرة . إن المسؤولين في واشنطن وأجهزة استخباراتهم الذين حاكوا ودبروا جريمة اغتيال الحريري كانوا يعرفون جيداً أن اللبنانيين سوف يتصرفون ببعض الفوضى والحيرة في حالات كهذه . وهذه الأخطاء وحالات الإهمال والتغافل ليست حالات نادرة في التحقيقات الجنائية في كل أنحاء العالم وفي هذه الواقعة بالذات ، اغتيال الحريري ، تم التخطيط للاستفادة من الأخطاء والإهمال ومنذ اللحظة الأولى لبدء التحقيقات لاختلاق قصة مكذوبة حول مؤامرة سورية لبنانية.
وكان أول المساهمين في ترويج هذه القصة الوهمية روبرت فيسك المراسل الصحافي العامل في الشرق الأوسط الذي أعطى صورة خاطئة للحادثة في صحيفة الإندبندنت حتى قبل أن ينشر تقرير فيتنـر جيرالد : فقد أكد أن المحققين على يقين من أن "رتباً رفيعة" في أجهزة الاستخبارات قد أخفت أدلة وأن تقرير الأمم المتحدة سيكون
" ساحقاً " . ولم يذكر روبرت فيسك مصادر معلوماته ولم يكتف بذلك بل " تنبأ " أن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش سيعلن قريباً أن " ضباطاً في المخابرات السورية واللبنانية متورطون " في هذه الجريمة . لقد نفى البيت الأبيض آنذاك هذا القول ولكن لم يكن هذا النفي إلا من قبيل الخداع.
كاتوري : ماهو هدف القَتَلة ؟
كولبل : هناك شبح يحوم حول الكرة الأرضية. لقد بدأ ممثلوا الأشكال السيادية الغربية ، والذين يدعون زوراً ديمقراطيين ، بالعمل على إزاحة الحكومات التي لاتحابيهم بانقلابات يسمونها " ثورات ديموقراطية " مدفوعين بالمصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية لرأس المال . وكانت بداية ذلك في سياق تعميم الظروف المناسبة للعولمة حتى قبل أن يقسم العالم إلى معسكرين شيوعي ورأسمالي.
وهكذا ما إنْ زحف الأباطرة من الجانب الآخر للأطلسي بمساعدة أنصارهم الأنكلوساكسونيين سنة 2003 إلى غزو العراق ، حتى لاحظ مجرمو الحرب سريعاً أنهم أخطأوا التقدير : " فبسط السلام " في العراق لم يتحقق ، كذلك باءت أحلامهم بإلغاء القومية العربية بالفشل ، إذ كانوا يتصورون أن الحكومات الملكية والديكتاتورية ستنهار واحدة بعد الأخرى وسيتمكنون من بلقنة الدول العربية وفرض سيطرتهم عليها ونهب ثرواتها ووضع إسرائيل موضع السيطرة المطلقة في وجه العرب والمنطقة بأسرها.
وهكذا أدخل الحاكم بوش الابن يده بعصبية في جعبة طاقمه السياسي ليخرج الأمريكية ذات الأصل الإفريقي والباردة برودة جليديات القطب الشمالي، كوندوليزا رايس ليتوجها وزيرة خارجية . ومنذ ذلك الوقت تساند رايس وتموّل علناً أو سراً "حركات المقاومة " في دول الاتحاد السوفييتي السابق والشرق الأوسط لإيصال حكومات ترضى عنها واشنطن إلى سدة الحكم بالقوة . يساعدها في ذلك المستغلون للحروب لمصالحهم الخاصة كنائب الرئيسي الأمريكي تشيني ودونالد رامسفلد، رئيسا هيئة أركان القوة الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية ، وخادما شركات النفط الكبرى . ولابد من التذكير أيضاً بأن المساعدات تتدفق إلى مناطق استراتيجية بالقرب من خطوط نقل النفط المخططة.
كما لاننسى الجهات الأخرى التي تقدم مساعدات مالية ولوجستية في هذا المجال، منها "دار الحرية " (فريدم هاوس ) التي يديرها المدير السابق للسي آي إي ، جيمس وولسي ، ووكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID) ، ومعهد المجتمع المنفتح الذي يديره جورج سوروس ، وهو من أغنى الطفيليين في العالم ، وكذلك المؤسسة القومية لتشجيع الديمقراطية (NED) ولاننسى حكومة طوني بلير .
وقد اعتادت شعوب العالم منذ استلام رايس لوزارة الخارجية ، على بعض "ثورات الخضار والفواكه الديمقراطية " كثورة البرتقال في أوكرانيا والثورة المخملية في جورجيا وثورة السوسن في قيرغيزيا وأخيراً ثورة الأرز في لبنان التي تمت إدارتها وإنعاشها في ربيع سنة 2005 بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وكان على رأس هذه الثورة وليد جنبلاط ملك الدروز القاتل المجرم في الحرب الأهلية اللبنانية.
كاتوري : ألم تكن فترة عمل حكومته قد شارفت على الانتهاء ؟
كولبل : لاتأثير لذلك . المهم التخلص من شخصية بارزة في الحياة العامة والسياسية بشكل مثير حتى تغلي الدماء غضباً في عروق اللبنانيين . وهكذا لم يكن أنسب من قتل الحريري وذبح " السيد لبنان " الذي كان يدير الدولة كمُلكٍ خاص ، لإطلاق
" ثورة الأرز " من جعبة المحافظين الجدد .
كاتوري : هل كنت على اتصال أثناء تحقيقاتك الشخصية مع لجنة تحقيق ميليس الدولية ؟
كولبل : لم تكن هناك فائدة من وراء ذلك لأنني أتتبع أثراً آخر مختلفاً تماماً . وإذا ما اطلع المرء على مئات الملفات وقرأ عشرات الآلات من الصفحات التي مرت بين يدي هذا المحقق الألماني يشعر بكل وضوح كيف أن العدالة وضعت عصابة على عينيها وراحت تحاول تحطيم جمجمتك بميزانها . لذلك لافائدة ترجى من اتصال كهذا . ومع ذلك فقد سعيت للاتصال بالسيد ميليس مرة واحدة وكان ذلك من أجل أجهزة الإنذار التي كانت مركبة في سيارات الحريري والتي هي صناعة إسرائيلية كما صرح شخص لم يفصح عن اسمه . وقد أشار ميليس حينذاك إلى التزامه بسرية التحقيقات وأحال سؤالي إلى براميرتز من بعده . وما إن ظهرت النسخة الألمانية من كتابي "اغتيال الحريري" حتى خرق " واجب الكتمان " فجأة – ولست أدري إذا كان ذلك بالاتفاق مع السيد براميرتز أو أنه تصرف لوحده – وصرح بتاريخ
21/4/2006 لصحيفة دايلي ستار اللبنانية أن " المزاعم التي أوردها هذا الكتاب حول أنظمة أجهزة الإنذار التي استخدمها الحريري لسياراته وأنها من صنع شركة إسرائيلية ، هي غير صحيحة ومضحكة ، وقد تفحصت مع بعض أعضاء لجنة التحقيق الدولية هذا الموضوع ورأينا أن أجهزة الإنذار التي كان الحريري يستخدمها قد استوردت من بلد في أوروبا الغربية " . حسناً، ولكن الاستيراد لايعني الإنتاج. وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى المسألة الأهم التي لم يجب عليها غيل إسرائيلي، ضابط مخابرات إسرائيلي سابق ومدير الشركة الإسرائيلية التي تصنع هذا النموذج بالضبط من أجهزة الإنذار ، حينما سالته : " هل تعني أنك لاتستطيع أن تنفي أن الحريري اشترى أجهزة الإنذار بشكل مباشر من شركتكم ؟ " وربما كان ذلك عن طريق شركة صورية أوربية تستثنى أحياناً ولأشخاص هامين من شروط التصدير المشددة التي تضعها وزارة الدفاع الإسرائيلية لتصدير مواد على هذه الشاكلة .
وعلى أية حال طلبت كتابياً من السيد ميليس بعد يوم واحد من تصريحه الصحافي توضيحاً دقيقاً لـهذا الموضوع لأنني أردت أن أصل إلى رأي نهائي قبل طباعة النسخة العربية من كتابي ولكنه كان مرة أخرى مستسلماً " لأحلامه الوردية " ولم يأتني منه أي رد .
كاتوري : لنفترض أن بعض الشهود لم يعودوا عن شهاداتهم ، هل سيكون لدى السيد بوش ، في هذه الحالة ، المبررات الكافية لتنفيذ خططه حول زعزعة الاستقرار في سورية ؟
كولبل : طبعاً! كان بوش يضع أمام عينيه أن الفوضى ستنتقل من بلد إلى آخر بعد لبنان ، وكان يظن أن سورية لقمة سائغة . خاصة وأن شخصاً تافهاً مناسباً يقف مستعداً ليكون " جلبي سورية " وهو فريد الغادري المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية ويعتبر نفسه " زعيماً للمعارضة السورية " . لقد ولد هذا التاجر في حلب وسرعان ما أصبح رئيساً لحزب " الإصلاح السوري " الذي أسس على عجلة بعد حوادث 11 أيلول في أمريكا. لقد غادر فريد الغادري سورية وهو ابن ثمانية أعوام مع عائلته إلى لبنان ولاحقاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث درس هناك العلوم المالية والتسويق وعمل في صناعة الأسلحة وأصبح ذا ثروة . فمن اين يعرفه
السوريون ؟! رأى فرصته الذهبية بعد أحداث 11 أيلول 2001 ليساعد وطنه البعيد "للعودة إلى الديمقراطية والحرية والازدهار عن طريق الإصلاح الاقتصادي والسياسي". لذلك انضم إلى " اللجنة الأمريكية لدفع الخطر المحدق " التي ينتمي إليها أشخاص مثل نيوت غينغريتش ورئيس السي آي إي الأسبق جيمس وولسي. وقد كتب الغادري في شباط 2005 ، تحت ضغط أحداث لبنان مقالة صحافية ورد فيها: " ستبقى الديمقراطية في سورية وهماً إذا لم تسارع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى مساندة الإصلاحيين السوريين ومساعدتهم مالياً . إن اجتماعاً في البيت الأبيض مع شخصية قيادية ديمقراطية سورية يعطي إشارة واضحة لسورية أن تغييرات جذرية آتية على الطريق".
ولم تأتِ نهاية آذار/ مارس إلا واستقبلته إليزابيت تشيني ، ابنة نائب رئيس الجمهورية، في وزارة الخارجية حيث تشغل رئاسة دائرة الشرق الأوسط فيها . وكانت تشيني قد أسست مع وزير الدفاع دونالد رمسفيلد ما أُسمي "مبادرة شراكة الشرق الأوسط " (MEPI) والتي كانت تمنح المساعدات المالية للقوى المعارضة في العالم العربي تحت غطاء " مساعدات اقتصادية وسياسية وتربوية ". وقد بلغ حجم هذه المساعدات في عام 2003 فقط مائة مليون دولار أمريكي.
وقد ترأست هذه " المتشددة " ذات الستة والثلاثين عاماً ، اجتماعاً غير رسمي في واشنطن حضره فريد الغادري ومجموعته من " المعارضين السوريين ". وقد بحثت هذه المجموعة من السوريين المقيمين في الولايات المتحدة والذين كانوا مجتمعين تحت سقف ما يسمى " الائتلاف الديمقراطي السوري" مع مسؤولين من مكتب نائب الرئيس ومن وزارة الدفاع ومن مجلس الأمن القومي ، كيفية " إضعاف النظام السوري" وكيفية إثبات " التهم الجنائية المدبرة على بعض المسؤولين السوريين ".
وبعد أن أصر الغادري في الاجتماع على ضرورة تدخل الرئيس الأمريكي شخصياً لتشديد الضغوط على دمشق ، صرح بعد الاجتماع أن : " الدعوة إلى الديمقراطية في سورية تحمل على محمل الجد في حكومة بوش ". وقد عبر الغادري عن رغبته " بالتعاون الوثيق مع حكومة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من أجل إسقاط نظام البعث السوري المزعج " إلا أن الغادري ، الذي كان ذا صلة وثيقة
بعبد النور، اختفى فجأة عن الأنظار بعد أن كذب على البرلمان الأوروبي وأُسقط عن عرش حزبه بسبب "تصرفات مشكوك فيها ".
وبعد أن اعتقد الجميع أنه خرج نهائياً من هذه الحلبة فاجأ الناس بعودته. فقد عقد بين 16 و 18 حزيران / يونيو 2006 في بيفركريك – كولورادو المنتدى العالمي للمحافظين الجدد" معهد المشاريع الأمريكية " (AEI) . وقد بحث المنتدى ، كما هو معروف، خطط هجوم جوي أمريكي إسرائيلي على إيران . إلى ذلك فقد أعطت إليزابيت تشيني رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو ، الضوء الأخضر للحرب العدوانية الأخيرة ضد لبنان . وكان بين الأشخاص الأربعة والستين المشاركين في هذا المنتدى وزير الدفاع رامسفيلد وأعضاء آخرون من حكومة بوش . وفي هذا المنتدى التقت تشيني مع فريد الغادري . ولم يكن ذلك بشير خير .
كاتوري : ماهو الدور الذي قام به سعد الحريري في تطورات هذا التحقيق ؟ ألم يكن إلى جانب أولئك اللبنانيين الذين حملوا رجال أجهزة الاستخبارات على أن يوجهوا التهمة إلى سورية ؟
كولبل : دعيني أقول شيئاً في هذا المقام. صرح سليمان فرنجية رئيس حزب المردة اللبناني، في مطلع شهر تموز / يوليو الماضي في مقابلة تلفزيونية، أن ضغوطاً قد مورست عليه حينما كان وزيراً للداخلية ليقول إن العبوة المتفجرة التي قتلت الحريري كانت موضوعة تحت الأرض حتى يستطيع آل الحريري الحصول على مبلغ التأمين . وقد أقام الحريري الابن على إثر ذلك دعوى قدح وذم ضد فرنجية .
كاتوري : وماذا تقول عن موقف السيد وليد جنبلاط الاشتراكي وموقف السيد مروان حمادة ؟
كولبل : لا أود أن أتكلم عن جنبلاط لأني لست طبيباً نفسياً. أما إذا كان حماده قد فكر أنه يمكن أن تكون محاولة اغتياله اختباراً لاغتيال الحريري من بعده ، فلست أدري! إلا أنه من المؤكد أنه ليس تلك الضحية التي يمكن إشعال صخب شعبي عن طريقها ويمكن تسيير هذا الصخب ليصب في القناة المرغوب بها. ولكنه على أي حال ليس هاماً لإسرائيل وكانت تستطيع الاستغناء عنه لو نجحت المحاولة . لقد قال مروان حمادة عندما كان وزيراً للمهجرين ووقع إيلي حبيقة ضحية لانفجار سيارة مفخخة : " من الواضح أن إسرائيل لاتريد شهوداً ضدها في الدعوى القضائية التاريخية في بلجيكا ، حيث من المؤكد أن يُدان شارون لمجازره في المخيمين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا . لقد قاسينا كثيراً من المجرم شارون في بيروت وتقاسي اليوم فلسطين تحت وطأة إجرامه " كلام قاسٍ ولاشك أرسله مروان حماده تجاه إسرائيل . وفي الأول من تشرين الأول / أكتوبر 2004 نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال بسيارة مفخخة ولكن سائقه قتل في الحادثة .
كاتوري : ماذا سيحصل مع أولئك الضباط الذين اعتقلوا بعد أن بدأ ميليس تحقيقاته؟
كولبل : أين هي منظمات حقوق الإنسان ؟ لقد استغنى السيد براميرتز في تقريره عن افتراضات ميليس أن واقعة الاغتيال لايمكن أن تكون قد حدثت دون معرفة ضباط رفيعي المستوى في أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية . وبينما كان ميليس يخرج "أدلته المزعومة" من الفانوس السحري، تصرف براميرتز بسرية غير معهودة وراح يبيعنا كلاماً قديماً على أنه جديد . فقد تكلم عن " عملية إرهابية شديدة التعقيد " وأن المنفذين " قاموا بعملهم بخبرة وحرفية عالية " وأن هذه الجريمة " قد خُطط لها بنسبة كبيرة من النجاح وتم تنفيذها بمستويات رفيعة من الانضباط الفردي والجماعي ". وأضاف : "هناك على الأقل قسم ممن قام بتنفيذ العملية يمتلك خبرات جيدة في تنفيذ الأعمال الإرهابية " .
كان ذلك مدعاة سرور لجنبلاط فقد هدَّأ المشاعر بقوله : " إن براميرتز يسير على خُطا ميليس . وحقيقة أن التقرير .... يشير إلى صلة بين كل التفجيرات التي حصلت قبل اغتيال الحريري وبعده ، هي بحد ذاتها اتهام واضح للنظام السوري .... الذي كان يسيطر على لبنان عند اغتيال الحريري . " إن هذا الكلام الجنبلاطي " حكمٌ صامت على النظام السوري" . ولكن مايدبر خلف الكواليس لابد وأن يظهر . وعلى أية حال فإن براميرتز لم يعترض على استمرار اعتقال رؤساء شعب الاستخبارات اللبنانيين الأربعة منذ صيف العام الماضي بناء على طلب من ميليس دون أدلة دامغة وبالرغم من أن هذه الأدلة قد سقطت تماماً في شهر كانون الأول / ديسمبر من العام الماضي . بل على العكس فإن لبنان يُعِدُّ بالتعاون مع الأمم المتحدة لتشكيل محكمة دولية وكل من يتصور أن براميرتز يمكن أن ينهج بتحقيقاته نهجاً حراً، ناهيك عن أن يكون " مجاملاً لسورية " فهو قطعاً جاهل للموقف. إذ يكفي أن نعرف أن كارلا دِل بونتِه ، المدعية العامة في دعوى ميلوشيفيتش، هي التي رشحت في ربيع 2005 " أخاها الحميم " ديتليف ميليس لرئاسة لجنة التحقيق الدولية، والذي رشح بدوره في كانون الأول / ديسمبر 2005 صديقه سيرج براميرتز لخلافته في رئاسة هذه اللجنة ، لذا لن يوجها انتقادات عميقة لبعضهما.
ولست أدري إذا كان النائب السوري محمد حبش محقاً في رأيه عندما علق مسروراً على تقرير براميرتز بالقول: " سيكون لهذا التقرير وقع سيئ على أعداء سورية " . إن الضباع أصرت على الاستجابة لرغبة بوش باتهام سورية ولن تتراجع عن ذلك . وقد قال لي أحد محامي الدفاع عن الضباط الأربعة ، ناجي البستاني :"منذ أشهر عديدة وأنا أقدم كل عشرة أيام طلب إخلاء سبيل لقاضي التحقيق المسؤول ، الذي استجاب لرغبة ميليس في صيف 2005 وأمر باعتقال الأربعة. ولكن لم يصدر عنه أي رد فعل . ولايسمح نظامنا القضائي بنقض تعليمات قاضي التحقيق . وهذا بالطبع مايعرفه ميليس . فمتى ما دخلت السجن بقيت فيه طالما رغب بذلك قاضي التحقيق".
كاتوري : ماذا يعني انتحار وزير الداخلية السوري برأيك ؟
كولبل : ربما كان ذلك نتيجة ابتـزاز وتهديد . فقد جمدت الولايات المتحدة الأمريكية في صيف 2005 حسابات غازي كنعان المصرفية، وراحت التهم تُكال لـه بأنه كان شريكاً في عمليات تجارية غير مشروعة في لبنان . ومن المعروف أن كنعان كان ذا صلة وثيقة بالحريري شخصياً ومالياً ، وقد تبنت وسائط إعلام لبنانية التهم الأمريكية وراحت تزيد في ضغوطها باتهامه أنه كان "رئيساً فاسداً لمافيا مخدرات" . كان هذا الكلام قبل استجواب كنعان من قبل ميليس . ولنقل مايلي: يأتي إليك شخص ويضع على الطاولة أمامك ، دون أن ينبس ببنت شفة ، وثائق تثبت أنه تلقى من الضحية عدة مرات مبالغ مالية كبيرة ثم يختفي بعد ذلك . لا أريد أن أزيد على ذلك ولكني سأدع وليد جنبلاط ، تلك الحرباء اللبنانية يتكلم حينما قال مرة ولم يكذب في تخميناته الخطيرة : " إذا كانت كبرياؤه ( كنعان ) قد جرحت بسبب تقرير التحقيق الدولي المتوقع فإن انتحاره عمل شجاع قام به رجل شجاع".
كاتوري : امتدت أصابع الاتهام سريعاً نحو السيد ميليس بأنه لايمتلك الخبرة الضرورية للإشراف على تحقيق بالغ الحساسية كهذه الحالة وبأنه منح ثقته لسياسيين لبنانيين فاسدين ولمصادر إسرائيلية . هل توافق على هذه الأقوال ؟
كولبل : تقول بعض الجهات الألمانية التي تعرف السيد ميليس وطريقة عمله إنه غير كفؤ مهنياً, إنه غبي . لقد كان ذلك هو الرأي الدولي السائد في كانون الأول/ ديسمبر 2005. ولكن ليس لديّ هذا الانطباع. لقد قام السيد ميليس بتطوير أسلوبه الخاص في عمل الادعاء العام الذي بقي صفة مرافقة لـه في كل أعماله . أما إذا كان هذا الأسلوب يتطابق مع تصوراتنا العامة ( في ألمانيا ) عن الحق والقانون والأخلاق، فهذا موضوع آخر. إني أقارنه برياضي مميّز في نوع خاص من الرياضات. وهذا " المميّز المختص" السيد ميليس ، يمتلك كما يبدو " ميزات" وخصائص تسمح لغيره بأن يُسمي لـه " مذنباً مفترضاً" ليظهر قدراته ببناء تركيبة اتهام متكاملة. وبذلك أكون قد أجبت أيضاً على الجزء الثاني من السؤال ، لأنه لابد من أن يعود إلى هذه العناصر الفاسدة التي ذكرتيها للقيام بما يطلب إليه .
ولكن دعيني هنا أضيف ملاحظة فيما يتعلق بإسرائيل : فقد قال إبراهيم جمبري، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية ، نهاية شهر آب / أغسطس 2005 إن السيد ميليس " لقي تعاوناً جيداً من إسرائيل والأردن " ولم يقل ذلك عن سورية . إن هذا القول " دعابة مضحكة " إذا علمنا أن عدة شبكات تجسسية لصالح الموساد قد اكتشفت في لبنان في هذه السنة ، وقد قامت منذ سنوات بتفجير سيارات مفخخة وبالقتل والأعمال الإرهابية في لبنان، ولم يهتم أحد في الأمم المتحدة بربط ذلك مع اغتيال الحريري . لابد من أن أسأل : ماذا تنفع تلك الحفنة من الرجال الذين يتخذون مقراً لهم في نيويورك تحت اسم الأمم المتحدة ؟
كاتوري : هل نستطيع إذن أن نستنتج أن لجنة التحقيق الدولية برئاسة ميليس لم تكن إلا أداة بيد المحافظين الجدد الذين أرادوا أن يحملوا سورية زوراً مسؤولية هذا الاغتيال؟
كولبل : بكل وضوح ! ولنـأخذ مثال سيرج براميرتز ، محامي الدفاع الرخيص لجون بولتون . فمع أن هذا المحقق البلجيكي تجنب اتهام سورية حتى الآن بجريمة الاغتيال كما ترغب واشنطن ومع أنه أكد أن " التعاون السوري في المستقبل ضروري للتحقيق " ، وجد بولتون المعروف بفظاظته ، نفسه مضطراً لأن " يترجم " هذا القول كما يريد فهمه : " لقد أوضح لنا براميرتز ، ولو بطريقة دبلوماسية ، أن سورية لم تتعاون بشكل كامل حتى الآن " . وهذا يعني من وجهة نظره أن
" الضغوط على سورية يجب أن تزداد " ولو تطلَّب ذلك " قراراً جديداً من مجلس الأمن الدولي ".
يبدو للوهلة الأولى أن البلجيكي يتدارك أخطاء سلفه السيد ميليس وتهاونه وخداعه وحِيَلَه ، التي تركهاله . ويقول براميرتز الآن ، بعد حوالي خمسة عشر شهراً على الجريمة إن الحريري قتل بانفجارين فوق الأرض وتحتها. وهذا ما قاله شهود عيان منذ أمد طويل ، ولكن ميليس لم يعمل بهذا القول لأنه لايتناسب مع خطته التآمرية ضد سورية . ورجح التفجير الذي انبعث من سيارة الميتسوبيشي التي كانت محملة بألف كيلو غرام من المواد المتفجرة . حمل السوريين مسؤولية إعداد هذه السيارة المفخخة وأخرج من فانوسه السحري أشباحاً شتى أسماها " شهوداً" . أما براميرتز فلم يذكر هؤلاء " الشهود" لأن اقوالهم ، فيما يبدو ، انتزعت منهم تحت التهديد بالتعذيب أو تحت الإغراء بالرشا المالية ، وسرعان ماعادوا عن شهاداتهم , ولكن براميرتز لم يُنه أعمال ميليس غير المتقنة لأن ضباط الأمن السابقين اللبنانيين لايزالون في السجن الذي دخلوه نتيجة هذه الشهادات المشكوك بصحتها ولأن السيد ميليس اتهمهم بالضلوع في هذه الجريمة بتعاونهم مع أجهزة الاستخبارات السورية .
يبدو أن الأمور تتجه لإدانة الضباط الأربعة لأن بولتون " يؤكد معرفته أن براميرتز يدير تحقيقاته استناداً إلى استنتاجات سلفه بالرغم من بعض الفروق الظاهرية. ومن الواضح أنه يسير في نفس الاتجاه " . يريد براميرتز أن يقود المحكمة الدولية بنفسه سنة 2007 – وربما كان ذلك في قبرص – وعند ذلك يقوم هو والقاضيان اللذان سيكونان معه ، بتقويم " شهادات" أولئك " الشهود الأساسيين " الذين "ابتكرهم" السيد ميليس . لقد أنهى هذا الألماني أعماله القذرة تحت لغط وسائل الإعلام حيث نال - بالإضافة إلى السخرية – وسام الخدمات الألماني وغادر لجنة التحقيق " شريراً" حتى يستطيع صديقه براميرتز أن يأخذ دور " الصالح " في هذه العملية. إنه تبادل أدوار كما تراه في الروايات البوليسية الرخيصة أو كما يتناسب مع رغبات المحافظين الجدد .
كاتوري : تقول الإشاعات أن السيد ميليس عمل لصالح مراكز الأبحاث التابعة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية – هل هذا صحيح برأيك ؟
كولبل: لقد ذهب إلى أمريكا (1986) مرة أثناء التحقيق في حادثة (لابيل) وقام برحلات تزلج على الثلج مع بعض العاملين في السي آي إي في آسبن ، كولورادو. ميليس أداة لدى أجهزة الاستخبارات ولولاها لما كان قادراً على الدخول في مجالات حساسة من السياسة القذرة . هذا كلام أكيد كما هي كلمة آمين في الكنسية . وهل تعتقدين أن القوى العظمى غبية إلى درجة أن تضيع وقتها مع محققين "شرفاء" لادافع لهم إلا تلك النـزعة " الساذجة " لمعرفة الحقيقة؟
لنعد إلى اتصالاته مع المخابرات الإسرائيلية : بدأ ميليس " عمله " في لجنة التحقيق الدولية حول اغتيال الحريري في شهر أيار/ مايو 2005. وبعد ذلك بأسابيع قليلة ، وفي 20 تموز / يوليو 2005 ، سألته الصحيفة الفرنسية لوفيغارو : " لماذا طلبت مساعدة إسرائيل والأردن ؟ " فأجاب ميليس : " من المعروف أن لدى الإسرائيليين معدات استخبارات جيدة وخاصة التقنية منها . وقد طلبنا إليهم إعطاءنا معلومات حول واقعة الاغتيال . وبالفعل فقد أعطونا معلومات جيدة ".
لاحقاً ، وفي تقريره الأول بتاريخ 19 تشرين الأول / أكتوبر 2005 وفي الفقرة 19 من المقدمة قال ميليس : " ... من المؤسف أن اللجنة لم تتلقَ معلومات مفيدة من أية دولة عضو في الأمم المتحدة " . وهكذا يبدو أن ميليس كذاب مزمن. إذ حتى الصحافة الإسرائيلية كتبت أن عملاء سريين من دولة إسرائيل التقوا في أوروبا بأعضاء طاقمه .
ومن الطبيعي أن لا أحد من السادة ( أعضاء اللجنة ) يشغل باله بالتفكير باحتمال أن يكون الموساد خلف اغتيال الحريري. فهذا ليس من ضمن الأوامر التي يتلقونها من ولاة أمرهم " إذ أن واجبهم الوحيد هو إقامة " عمود التشنيع " لسورية. هؤلاء هم رجال آليون يضعون لأنفسهم برنامجاً خاصاً : يتلاءمون ويرتقون في المناصب وهو قابعون عديمي الضمير وفاسدي السريرة خلف أقنعة نظيفة . إنهم عواهر هذا النظام الذين ، كما أصفهم دائماً ، يُستخدمون لكل أنواع العهر والفجور. وقد وصف الكاتب الألماني هاينريخ مان، وهو أخٌ للأديب الشهير توماس مان ، هذا النوع من الناس ، منذ عام 1914 وصفاً قاسياً لاهوادة فيه ، في روايته الشهيرة : "الخانع" . واليوم لاتنطبق هذه الأقوال على الألمان فقط .
كاتوري : هل ترى أن سيرج براميرتز أفضل من سلفه؟
كولبل : يبدو لي أن براميرتز قد استطاع أن يخدع العالم " بتقريريه التقنيين " الأول والثاني . وتدور الأحاديث خلف الكواليس أنه قد " أعاد إلى الواجهة " في الأسابيع الماضية أحد شهود ميليس : " الشاهد الملك " محمد زهير الصديق . فقد ذكر الصديق في مقابلة على تلفزيون " العربية " يوم السبت 9 أيلول / سبتمبر 2006 أن: " الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره اللبناني إميل لحود هما اللذان أعطيا الأوامر لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري " وأضاف : " إن القتلة هم الآن في السجن والباقون في سورية " . وقد أشار بذلك إلى رؤساء أجهزة الأمن اللبنانيين السابقين الأربعة الذين مضى عليهم أكثر من عام رهن الاعتقال بناءً على "شهادته" وعلى طلب ميليس " وهؤلاء هم اللواءان جميل السيد وعلي الحاج والعميدان ريمون عازار ومصطفى حمدان .
ولكن المجلة الألمانية الإخبارية " درشبيغل " ذكرت منذ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 أن الصديق شخص مشكوك بأمره وله سوابق جنائية وقد سجن كمجرم وكمحتال .
وهذا الشخص الذي زُعم أنه ضابط سابق في الاستخبارات السورية أحيل في الحقيقة أكثر من مرة إلى القضاء بتهم جنائية ولاختلاس أموال . وقد ذكرت المجلّة أن لجنة التحقيق كانت تعرف أن الصديق قد كذب عليها ، إذ قال في البداية إنه غادر بيروت قبل شهر من اغتيال الحريري ليعود ويعترف في أواخر أيلول / سبتمبر 2005 باشتراكه في تنفيذ الجريمة .
لقد شهد الصديق أمام ميليس أنه وضع شقته في بيروت تحت تصرف قتلة الحريري وكان من بينهم الضباط الأربعة المعتقلون السابق ذكرهم . وقال عن نفسه إنه كان يجمع معلومات عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لصالح الاستخبارات السورية وقبل أسابيع من شهادته هذه أرسلت الحكومة السورية وثائق عن الصديق إلى عدة حكومات غربية آملة بذلك ألا يقع ميليس في فخ هذا المحتال المعروف .
إلا أنه تبين بعد ذلك أن الصديق قد أعطى شهادته تحت القسم لقاء مبلغ مالي. وقد اعترف إخوته أنهم تلقوا منه في أواخر الصيف اتصالاً هاتفياً من باريس يخبرهم فيه أنه " قد أصبح الآن مليونيراً " .
كما ازدادت الشكوك حول مصداقية هذا الرجل بعد أن كُشف أن المعارض السوري منذ أمد طويل رفعت الأسد ، عم الرئيس السوري ، هو الذي نصح ميليس بسماع شهادة الصديق ، ويذكر أن رفعت الأسد عرض نفسه بضع مرات ليكون "رئيساً بديلاً لسورية " .
ومن ثم فقد أصدرت السلطات اللبنانية أمر اعتقال ضد الصديق لأنه اعتبر لاحقاً مشتبهاً به من قبل لجنة التحقيق الدولية . إلا أن السلطة الفرنسية رفضت تسليمه بحجة أن القوانين اللبنانية لاتزال تسمح بإصدار حكم الإعدام .
ثم إنه لم يصدر حتى الآن أي اتهام رسمي ضد ضباط الاستخبارات المعتقلين ولم تتم مواجهتهم مع الصديق ، كما تتطلب ذلك القوانين سارية المفعول .
وفي يوم السبت 9 ايلول / سبتمبر 2006 أعاد الصديق اتهاماته من مأمنه الباريسي : " لقد رأيت السيارة ( التي نقلت المتفجرات ) حينما كانت تجهز للعملية في أحد معسكرات الاستخبارات السورية في الزبداني ، وقد أعطيت الرئيس السابق للجنة التحقيق صوراً ووثائق قاطعة احتفظ بمسوداتها ، وهناك الكثير من الأمور الأخرى التي سأكشفها لاحقاً".
وقد قال الصديق في هذه المرة : " إن الاستخبارات السورية حاولت أن تغريه بمبالغ كبيرة من المال لقاء عودته إلى سورية وعرضوا عليه كذلك منحه لقب بطل وطني " إذا عاد عن شهادته واتهاماته التي أدلى بها . وقد زعم أيضاً أنه يملك "شريط تسجيل لـه مع ضابط سوري رفيع " حينما طلب إليه في الشهر الماضي أن يتهم بعض أعضاء كتلة 14 آذار بأنهم هم الذين طلبوا إليه أن يتهم سورية بقتل الحريري .
إن القضاة والمدعين العامين الذين يمتلكون عقلاً سليماً يعرفون في ظروف طبيعية أن لدى هذا النوع من الشهود مشاكل نفسية قطعاً ، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح هو : من اختلق هذا الشاهد الممتاز ؟ ولكني شخصياً متأكد أن السادة في لجنة التحقيق لن يطرحوا هذا السؤال وأن براميرتز يحب هذا الصّديق .
كاتوري : أليس من دواعي القلق أن السيد كوفي أنان عيّن شخصاً كهذا لهذا المنصب الهام؟
كولبل : إن السيد كوفي عنان هو الشخص الزنجي الثالث بعد أو.ج. سيمبسون وكوندوليزا رايس ، الذين لا أود أن ألتقيهم ولو صدفة .
كاتوري : هل اقترحت السيدة كارلا دِل بونته كمدعية عامة في المحكمة الدولية السيد ميليس لرئاسة لجنة التحقيق دون دوافع غير بريئة ؟ ( علماً أن السيد جاك فيرجيه ينظر إلى هذه المحكمة على أنها غير شرعية ) .
كولبل : الجميع من نفس الشجرة . كارلا دِل بونته أو كارليتا لا بستا، هي التي اقترحت السيد ميليس لهذه المهمة، واقترح السيد ميليس بعد ذلك صديقه براميرتز خلفاً لـه .
كاتوري : أليس هو نفسه السيد ميليس الذي أثار فضيحة عندما حمّل ليبيا مسؤولية الانفجار الذي حصل سنة 1986 في مقهى " لابيل" في برلين وكان ذلك حجة للولايات المتحدة الأمريكية لتقصف طرابلس وبنغازي وتفرض العزلة على ليبيا؟
كولبل : صحيح أن ميليس هو الذي كان مسؤولاً عن تحقيق لابيل . وأود هنا أن أذكر بالمناسبة أنه من الغريب أن فكرة اتهام ليبيا بهذه العملية أتت من صاحب المقهى نفسه، فقد قال في 6 نيسان / أبريل 1986 ، بعد الانفجار الذي حصل في هذا المقهى في برلين الغربية بيوم واحد والذي كان أغلب رواده من الجنود الأمريكيين الزنوج، وتسبب الانفجار بقتل جنديين أمريكيين وفتاة تركية وبجرح ماينوف على مئتي شخص آخرين : " إننا نسمع في الآونة الأخيرة عن هجمات إرهابية يقف القذافي وراءها وكنت أخشى دائماً أن يكون مقهاي هدفاً لإحدى هذه
الهجمات " . أما حول مدى تورط هذا الشخص في تجارة المخدرات أو في تجارة السلاح، كما شهد العديد من الشهود بذلك ، فلم يكلف أحد نفسه عناء التحقيق. وربما كان صاحب المقهى هذا أداة تم استخدامها مقابل خدمات معينة .
إن العملية كلها مليئة بالمكر والخداع والدسائس وهي من النوع الذي يتطلب مواطناً خاضعاً نموذجياً ليحبك من كل ذلك تهمة ملفقة يرضي بها أسياده . وسأكتب عن ذلك مفصلاً في كتابي التالي لأنني درست هذه الحالة ووثائقها دراسة مفصلة .
كاتوري : كان لبعض الرسائل البرقية التي أرسلها الموساد دور في تحميل ليبيا مسؤولية حادثة لابيل . كيف تعامل المحقق والمدعي العام السيد ميليس مع هذه "المواد المتلاعب بها " والتي بالكاد يمكن أن تعتبر أدلّة صحيحة ؟
كولبل : كان رئيس الولايات المتحدة في تلك الفترة ، رونالد ريغان، متأكداً مباشرة بعد الهجوم ، من أن الرئيس الليبي معمر القذافي هو الذي كان خلف الاعتداء . ولإثبات ذلك ادعى جهاز الاستخبارات الوطني الأمريكي أنه استطاع أن يلتقط برقية صادرة عن السفارة الليبية في برلين الشرقية، عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك، تنص على مايلي : " في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليلة الماضية تم تنفيذ إحدى العمليات بنجاح دون أن تبقى أية دلائل . مكتب التمثيل الشعبي الليبي في برلين".
وقد قال المقدم السابق في الاستخبارات الإسرائيلية فيكتور اوستروفسكي، بشهادته تحت القسم في قضية لوكربي، إن مجموعة كوماندوس من الموساد قامت في ذلك الوقت بتركيب جهاز إرسال في طرابلس استخدم لإرسال الإشارات المزيفة حول " نجاح" عملية الهجوم بالقنابل في برلين . ويؤكد أوسترو فسكي أن حكاية البرقيات الملتقطة هي من اختراع الموساد.
كاتوري : ماهي معلوماتك حول هذه البرقيات المزعومة؟
كولبل: اتصل السيد ميليس بالاستخبارات الألمانية في بولاخ بالقرب من ميونيخ وكان على علم بهذه الرسائل الكلاسيكية المزعومة وأراد ان يستخدمها كأدلة جنائية. وفي اجتماع حصل في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1996 بين السيد ميليس وبعض العاملين في " قسم الأدلة التقنية " التابع للاستخبارات الألماني ، تم التأكيد على دراسة طلبه وفي 9/10/1996 تلقى السيد ميليس كتاباً من الاستخبارات يحتوي على مضمون هذه الرسائل المشكوك بصحتها .
وحتى نكون دقيقين فإن الأمر يتعلق بخمس رسائل تلكس تم تبادلها بين طرابلس وسفارتها في برلين الشرقية في الفترة ما بين 25 آذار / مارس و5 نيسان/ أبريل 1986 وقد سلمت للمخابرات الألمانية ، كما يدعون ، في إطار استطلاعات خارجية عن طريق أحد " الأجهزة الصديقة " والمرجح طبعاً أنه جهاز الاستخبارات الأمريكية الذي استطاع أن يفك رموز هذه الرسائل قبل أن يسلمها للمخابرات الألمانية واشترط عليها ألا تفصح عن المصدر ولكن مع الموافقة على وضعها تحت تصرف الادعاء العام الألماني والمحكمة .
وبعد عامين في 6 تشرين الأول / أكتوبر 1998 حين قدمت الاستخبارات الألمانية وثيقة رسمية إلى المحكمة حول هذه الرسائل، أشارت إلى احتمال وجود تزوير في مثل هذه الرسائل إلا أنه ليس لديهم أدلة ثابتة على التزوير .
زعمت الاستخبارات الألمانية أنها حلت رموز هذه الرسائل وترجمتها من النص الأصلي العربي إلى الألمانية . وهنا يصبح الموضوع شديد الحساسية . فقد لفتت الاستخبارات الألمانية نظر المحكمة كتابياً إلى أن " النص الأصلي للرسائل التي حلّت رموزها لم يعد موجوداً عندهم حتى ولا النص الأصلي العربي أيضاً " . ويقول السادة في إدارة شعبة الاستخبارات الألمانية في بولاخ ، إن هذا أمر طبيعي إذ أن النص المترجم يغني عن " الأصل " في مثل هذه الأحوال .
ولايكفي أن هذه الرسائل – ولا أريد أن أذكرها هنا بالتفصيل – هي من نسج خيال الموساد ، كما أكد اوستروفسكي بشهادته تحت القسم ، بل وجدت طريقها إلى محكمة ألمانية بأسلوب غير سليم أيضاً .
إن ذلك حقاً نوع من الاحتيال الرخيص والمفضوح حتى أن كل شخص ذي عقل سليم يلاحظ هذا النوع من الاحتيال والتزوير .
كاتوري : هل نستطيع أن نستنتج أن السيد ميليس قد عمل لصالح إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أنه سبق وغطى عملية للموساد في الملف البرليني آنف الذكر ؟
كولبل : للأسباب السابقة أوافق المحلل السياسي البريطاني نافذ مصدق أحمد إلى أبعد حد ممكن فهو يقول : " لقد غطى السيد ميليس ، كمدعٍ عام في برلين ، ربما سهواً ولكن في إصرار ، الاهتمامات غير البريئة للاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والألمانية في العملية الإرهابية سنة 1986، وقام بتركيب موضوع انتقائي مُسيس دون أية أدلة جنائية مادية ضد متهمين بينما حمى ودافع عن مجموعة أخرى من المتهمين بصلات موثقة مع أجهزة استخبارات غربية.
كاتوري : يطلب السيد براميرتز تمديد فترة التحقيق لمدة عام . هل ترى ذلك طلباً معقولاً؟
كولبل: يبدو لي أن أنفاس السادة المحققين في " محاكم التفتيش " الدولية قد انقطعت بعد أن تبين أن الأدلة ضد دمشق وضد ضباط الاستخبارات اللبنانيين السابقين الأربعة المعتقلين هشة جداً كثقب في جورب مهترئ . ولكن ذلك يكفي لمن يقف وراءهم ، وأقصد بوضوح الإدارة الأمريكية ، بأن يتركوا " طبخة" الاتهامات ضد سورية ، على النار عاماً آخر . وهناك توقع عام أن بوش ينوي في النصف الثاني من ولايته الثانية أن يقوم ببعض الضربات الإمبريالية الحربية .
كاتوري : هل تموّل الولايات المتحدة حركة الرابع عشر من آذار ؟
كولبل : هل تعنين تلك المجموعة الحقيرة التي تقف في خدمة " أمريكا القاتلة " منذ ثورة الأرز ؟ ( هنا لعب بالكلام بين أمريكا القاتلة وأمريكا الشمالية باللغة الألمانية Mordamerika و Nordamerika – المترجم ) .
كاتوري : هل يخدم ذلك أهداف السيد زياد عبد النور ، ذلك الرجل الذي تعتمد عليه واشنطن وتل أبيب ليقيم لهما نظام حكم متوازناً ومناسباً لهما في لبنان؟ ( لقد ذكرت في كتابك أن السيد زياد خليل عبد النور رئيس " اللجنة الأمريكية من أجل لبنان الحر " هو صاحب اليد الطولى والشخص الأهم في تنفيذ مخططات إدارة بوش).
كولبل : كان ولايزال حتى الآن واحداً من أنشط المنظّرين وأكثرهم اجتهاداً، فهو لايترك مناسبة إلا ويستغلها للدعاية ضد سورية والتحريض ضدها وضد الوضع الراهن في لبنان . لقد وضع نصب عينيه فرضَ ظروف رأسمالية تقليدية في الدول العربية . وقد ذكرت في كتابي أنه لن يستمر بالقيام بدور سياسي ولكن اهتماماته واهتمامات عملائه الاقتصادية سوف تجد من يحققها بالطبع من خلال حكومة عميلة. وهذا هو الهدف الوحيد لهذا المصرفي العامل في وول ستريت . وهو يعتبر أن كل بلد عربي لا ينفذ فيه رسالته هذه هو خسارة اقتصادية لـه ولمن على شاكلته. وعلى سبيل المثال فقد حاضر بين الخامس والسابع من حزيران / يونيو 2006 في فندق مدينة الجميرة في دبي حول موضوع : " استثمار رأس المال المغامر في العالم العربي" . وقد تكلم عبد النور بصفته رئيس مجلس إدارة ومديراً تنفيذياً في "بلاكهوك وشركاه " في الولايات المتحدة الأمريكية ، أمام إخوان لـه من مصارف وشركات كبرى في الولايات المتحدة وأوربا والشرقين الأدنى والأوسط وكذلك أمام ممثلين لصندوق النقد الدولي .
كاتوري : هل ساعد عدم الاستقرار في لبنان على " إنتاج" نوع من " جلبي 2" كالسيد ناجي ن. نجار من بين أولئك الذين تمولهم إسرائيل والولايات المتحدة ؟
كولبل : لايوجد شخص لبناني شريف واحد يصبر على هذا " النجار " العميل الدائم لإسرائيل ، حتى كمشرف في مخزن لبيع الأحذية . إن هؤلاء الناس اللاأخلاقيين والذين يكونون غالباً خدماً لسيدين ، لايوجدون إلا في تلك المناطق الرمادية بين السياسة وأجهزة الاستخبارات وينفذون لعبتهم هناك ويبيعون أنفسهم كعملاء ومخربين . ويحتاج دور هذا " الاستراتيجي " إلى توضيح أكثر شمولاً مما قمت به حتى الآن. أما إتيان صقر ، قائد " حراس الأرز " وهي إحدى ميليشيات الحرب الأهلية المنظمة وفق النموذج الفاشي ، فقد جمع في نهاية شباط / فبراير وفداً من " المعارضين في المنفى " مع أعضاء من مجلس العموم البريطاني حتى يناقشوا " الوضع " في لبنان وسورية ، وكان النجار طبعاً على رأس المجموعة اللبنانية . وفي هذا الاجتماع طلب هؤلاء المقيمون في الخارج والذين تتهددهم الإجراءات القضائية في لبنان لتعاملهم مع الإسرائيليين إبان الحرب الأهلية ، حق العودة إلى لبنان والمساهمة في العملية السياسية ليعلنوا الحرب على الأصولية الإسلامية . إلى ذلك فقد انتقدوا الحكومة في بيروت لأنها لم تنـزع سلاح حزب الله بعد . وقد طالب إتيان صقر ، المحكوم بالإعدام في لبنان، كلاً من لندن وواشنطن زيادة الضغوط على حكومة دمشق لأنها بمساعدتها للإرهاب ولحزب الله قد أصبحت مركزاً لبعث القلاقل في المنطقة . وقد اتفق الجانبان في اجتماعهم في نادي ضباط الجيش في لندن على إبقاء هذا المطلب نصب أعينهم وعلى التنسيق مع الفرنسيين حول ذلك .
وفي ذات الوقت تقريباً ، في السابع عشر من آذار / مارس ، شاءت الصدف أن يلتقي أربعة عشر سياسياً سورياً معارضاً في بروكسل ويصرحوا بأن " سورية بحاجة إلى الخلاص من هذا النظام الاستبدادي الذي يضعف البلاد " . وتريد هذه المجموعات المعارضة من الليبراليين إلى الشيوعيين والأكراد والإخوان المسلمين أن يغيروا النظام الحاكم بتعطيل أحكام الدستور مؤقتاً وتشكيل وزارة انتقالية تجري الانتخابات وتنهي العمل بقانون الطوارئ.
كذلك فقد قال نجيب غضبان ، من المجلس الوطني السوري ، الذي هو منظمة مركزية تضم المجموعات السورية المعارضة في الولايات المتحدة الأمريكية : " إن هدم حاجز الخوف هو من أكبر التحديات التي تواجهنا " . وغضبان أستاذ في جامعة أركنساس بالإضافة إلى كونه عضواً بارزاً في مركز واشنطن للدراسات الإسلامية والديمقراطية وهذا المركز هو منظمة تضم المنشقين السوريين ويرتبط برباط وثيق مع هيئة المساعدات الأمريكية (USAID) التي يشرف عليها تشيني ورايس . وهدفهم الأول إنشاء " شرق أوسط جديد " تدافع عنه الوزيرة الغرانيتية رايس .
كاتوري : هل لاعتقال عملاء الموساد في شهر حزيران / يونيو 2006 في جنوب لبنان، أية علاقة مع ملف اغتيال الحريري.
كولبل : أرسلت بتاريخ 26 حزيران / يونيو رسالة مفتوحة إلى السيدين كوفي أنان وسيرج براميرتز نشرت أيضاً في الصحافة اليومية العربية ، وقد طلبت منهما فيها عدم إضاعة الوقت وتوسيع التحقيق في اغتيال الحريري نحو "إسرائيل والموساد" وعملائهم. وبما أن هذه الجرائم التي ينفذها الموساد في الخارج – مثل جريمة اغتيال المجذوب مؤخراً في صيدا – لاتتم إلا بموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي ، اقترحت على أنان أن يخول لجنة التحقيق الدولية المستقلة في اغتيال الحريري – وإصدار قرار بذلك من مجلس الأمن الدولي إذا كان ذلك ضرورياً – باستجواب المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسهم رئيس الوزراء إيهود أولمرت ورئيس جهاز الموساد مئير داغان. لأن تحقيقات الجيش اللبناني أظهرت أن إسرائيل تمتلك خبرة شاملة وتجربة كبيرة في تقنيات جرائم السيارات المفخخة . بالإضافة إلى ذلك فإنها فرصة فريدة للجنة التحقيق الدولية برئاسة سيرج براميرتز والمحققين النشيطين معه، للدخول في عالم تنظيم إرهابي يعمل على مستوى لوجيستي وتقني عالٍ، وربما استطاعوا بذلك أن يصلوا إلى أجوبة لأسئلة كثيرة لاتزال مفتوحة لديهم ، فمنها مثلاً تلك الوسائط التقنية العالية التي استخدمت في جريمة اغتيال الحريري .
كاتوري : يعتقد كل المحللين السياسيين المحايدين أن فرنسا مسؤولة عن الويلات التي حلت بلبنان منذ أن بدأت بمساندة القرار الدولي رقم 1559 عام 2004 . هل تفهم لماذا اتخذت فرنسا موقفاً قد يضر صورتها لدى العالم العربي؟
كولبل : لاشك أن فرنسا هي أحد المسؤولين عن تلك المصيبة التي حلت بلبنان منذ اغتيال الحريري . ليس جاك شيراك تابعاً للولايات المتحدة في ألاعيبها السياسية في الشرق الأدنى فقط ، وإنما حاول جاهداً ايضاً أن يقنع بوش بإطلاق يد فرنسا الحالية في مناطق نفوذها الاستعماري السابقة . وقد صيغت مسودة قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي طلب انسحاب القوات السورية من لبنان ، من قبل أحد المستشارين في قصر الإليزيه بالتعاون مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس . ولم يطلع على النص قبل عرضه على الدراسة لا الأمين العام كوفي أنان ولا حتى وزارة الخارجية الفرنسية، وتشير كل الأحداث التي حصلت بعد ذلك إلى أن اتفاقاً تم بين شيراك وبوش وشارون على توزيع الأدوار في مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بالرئيس السوري الأسد والقضاء على حزب البعث.
كاتوري : هل تعتقد أن مايجري في هذه المنطقة الآن هو حرب مزمنة ؟ وأن إسرائيل لاتدير هذه الحرب لتدمير حزب الله فقط وإنما لتدمير كل شعوب المنطقة أيضاً ؟
كولبل : ماتقوم به إسرائيل الآن هو أنها تتعامل مع المجتمع الدولي كرهينة لديها. وترسل " البلاطات الأوربية الديمقراطية " ودول غيرها خمسة عشر ألف من شبابها إلى الأراضي المقدسة مزودين : " بتكليف حازم " للعمل على حماية أمن إسرائيل. ويقوم دافعو الضرائب في هذه الدول المرسلة بدفع تكاليف هذه المهمة . أما جثث هؤلاء الشباب العائدة إلى بلادها فتستقبل بالموسيقى وطلقات المدافع . وإذا كانت هذه القوات الدولية التي أتت وستأتي إلى لبنان مفيدة كمقدمة لضربة إسرائيلية أو أمريكية أو لضربة مشتركة بينهما لإيران ، فهذا مالايزال في علم الغيب . من الممكن أن تشكل القبعات الزرق في هذا الجزء من المشرق العربي دعامة خلفية حينما تهاجم الطائرات الإمبريالية والإسرائيلية طهران . وبطبيعة الحال فقد حولت الولايات المتحدة الأمم المتحدة في الأعوام الماضية إلى جهاز صغير عاجز عن اتخاذ أي قرار مستقل، وهددتها كذلك بقطع مواردها المالية إذا لم تستجب لرغبات أباطرة واشنطن. ولماذا لايرسل الأمريكيون هذه القوات الآتية لحفظ السلام إلى جحيم الحروب خدمة لأهداف بوش وطاقم تشيني ومصالح هذه الإدارة ؟
كاتوري : من يسيطر هذه الأيام على السياستين الخارجية والأمنية في بلداننا . أهم الحكومات أم أجهزة الاستخبارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ؟
كولبل : لا أود أن أرى الأمور على هذا الوجه التآمري . ولكن هناك في الحقيقة بعض الأوغاد الذين عوّموا الانتخابات الرئاسية سنة 2000 في الولايات المتحدة على سطح السياسة العالمية . ويستخدم هؤلاء ، طالما كانوا في الحكم ، كل أساليب السلطة القومية والعالمية بكل قساوة بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة حتى يحققوا مصالحهم ويشنوا الحروب ضد الإرهاب ويحققوا مشروعهم العالمي الاستعماري . ومع الأسف فإن بعض الحكومات تساهم في ذلك بتوجيه من القائمين على صناعاتها العسكرية حتى يلتقطوا بعض الكِسَر الصغيرة من المسروقات أو أملاً منهم ببعض المزايا الاقتصادية والاستراتيجية ، ومن بين هذه الدول ألمانيا تحت القيادة السياسية للمستشارة ميركل . ولكني آمل أن يجد المحافظون الجدد قريباً طريقهم إلى المرحاض العالمي .
كاتوري : أليس لديك الانطباع أن أجهزة الاستخبارات تؤثر على ديمقراطياتنا تحت غطاء مكافحة الإرهاب ؟
كولبل : من الطبيعي أن كثيراً من أعمال التدليس والاحتيال تتم تحت غطاء "مكافحة الإرهاب" ، فهناك الكثير من الدول التي تسمي نفسها " ديمقراطيات" تعمد تحت هذه الحجة إلى إصدار العديد من القوانين التقييدية فاتحة بذلك الطريق إلى ما يسمى " دولة الرقابة " . ولاشك أن أجهزة الاستخبارات سيشتد ساعدها في مثل هذه الظروف لأن مهمتها ستكون خدمة الطبقة الحاكمة وتأمين سلامة وضعها . وكما تعرفين فإن الرأسمالية تسرع عائدة إلى جذورها لعدم وجود قوة مضادة تضطرها إلى ضمان التأمينات الاجتماعية لشعوبها . كما لايمكن أن تتم هذه العملية فجأة بل خطوة خطوة حتى لاتظهر بعض الأخطار التي لايمكن التغلب عليها كظهور مقاومة شعبية يمكن أن تنتهي باستخدام الشكل الجديد للمقصلة . وهكذا ترين أن بالإمكان فعل الكثير بحجة مكافحة الإرهاب، لقيادة الجماهير البسيطة .
كاتوري : هلاّ تزال مجتمعاتنا قادرة على أن تحمينا من أعمال التدليس والاحتيال هذه؟
كولبل : كلا! فأقسام كبيرة من المجتمع ، وقبل كل شيء أنه لايزال هناك اليوم في تلك الدول المنصاعة للسيد بوش وإسرائيل في هذيانهما حول معاداة الإسلام ومعاداة العروبة أجهزة استخبارات تشكل دولاً ضمن الدولة ومستعدة للتخطيط لحوادث أفظع وأرهب من حوادث 11 سبتمبر والتحريض لتنفيذها؟ وهل هناك مجموعات من العملاء تعمل خارج رقابة حكوماتنا وتنفذ عمليات سرية بالتعاون مع السي آي إي والموساد ، بينما لاتعرف حكوماتنا شيئاً عنها ولاتستطيع حمايتنا منها ؟
كولبل : إني أشك بأن الحكومات التي تحقق كل الشروط اللازمة لاستغلال الإنسان يمكن أن تقوم بحمايتنا كشعوب . وعلى أية حال إذا كان لدى حكومة معينة فترة ثماني سنوات فقط لتغيير خريطة العالم وسرقة المصادر الحيوية ، فإنها بالتأكيد لن تتردد كثيراً باستخدام الطرق والأساليب المتوفرة لديها لتحقيق ذلك. وأود في هذا المجال أن أشير إلى حكومة الظل التي يديرها ديك تشيني في كل الطوابير الخامسة التي تقف مستعدة للتدخل في قضية سورية وقضية إيران وقضية مصر وغيرها .
كاتوري : كانت أحداث الحادث عشر من سبتمبر الشرارة التي أطلقت الحرب من عقالها ضد الإسلام . هذه الحرب التي سميت " حرباً ضد الإرهاب" . هل تعتقد بإمكانية حدوث هجوم من هذا النوع يكون أشد رعباً وفظاعة يعطي الحجة اللازمة للولايات المتحدة الأمريكية لتشن حرباً على إيران بارتياح أكبر؟
كولبل : أقول بكل جدية إن الحرب في كل من أفغانستان والعراق أشد هولاً من أحداث سبتمبر وعند إعطاء هذه الإجابة في 28/8/2006 وحسب الموقع www.iraqbodycount.net بلغ عدد القتلى منذ بداية الحرب في العراق 45399 قتيلاً عراقياً مدنياً . ولكنك على حق أيضاً إذ أنه طالما بقي بوش وتشيني في سدة الحكم فعلينا أن نتوقع بين دقيقة وأخرى كل فظاعة تخطر على بال . فهذان الشخصان ومعها طاقمهما ، نذكر رايس وبولتون المقيت على سبيل المثال لا الحصر، قد حولوا وجه العالم إلى ماهو أسوأ وأقبح . وهم يستثيرون العالم دائماً عن عمد كما يفعل لاعب الكاراتيه البغيض والمقرف في أفلام هوليوود التافهة والذي يخرج عن قواعد اللعبة ويضرب خصمه في أسفل بطنه ويسمعه من الكلام كل سيء وبذيء.
إنه من الممكن تماماً أن تقوم الولايات المتحدة وحدها أو بالتعاون مع اسرائيل، بتطوير فكرة وتنفيذها لتبرر هجوماً على إيران وتعطيه صفة الشرعية، والأهم من ذلك هو إعطاء " الديمقراطيين " في الاتحاد الأوروبي وفي بلدان أخرى ، تعليمات حول إمكانيات اختراع سبب للحروب بحيث يعطي الانطباع بأنها حروب دفاعية ضد العدو المشترك .
كاتوري : أعتقد أن الموساد والسي آي إي ينظران اليك اليوم كعدو ويراقبان كل رسائلك واتصالاتك . ألا تخشى من أنهما قد يحاولان إسكاتك بأسلوب وحشي؟
كولبل : لقد خطر لي ذلك قطعاً . ولكن سبق وقتل أشخاص عدة في الحوادث التي حقق فيها ميليس من قبل ، سواء كان ذلك القتل " حادثة عرضية " أو "حالة انتحار لأسباب سوداوية " .