ضحية بين معاق وموتى والعدد مرشح للازدياد

سها مصطفى

لم يكن يعلم يزن (9 سنوات ) ومحمد وإيهاب ومحمد (11سنة) أن اللعب جريمة يعاقب عليها الأطفال في العرف الهمجي الإسرائيلي..

وسيكون ثمن اختراق هذا الشرط المحرم (اللعب) الكثير من الدماء والخوف مع أصوات سيارات الإسعاف التي حضرت لإنقاذهم بعد انفجار صاعق وضع في لعبة مكعبات تركيبية للأطفال بين يدي يزن ومحمد أمام أعين أخويهم..

الانفجار الذي حدث العام الماضي كلف أسرة آل جريدة من منطقة خان الأرنبة في القنيطرة فقد اثنان من أبناءها السمع والبصر في إعاقة شبه كلية ..عدا الشظايا التي اخترقت أجساد الجميع دون استثناء!

دون أن تميز بين الأطفال والنساء والشيوخ أو الرجال، فالجميع هنا هدف محتمل وضحية متوقعة.

وكل ما يذكره محمد" أنه ذهب وأخاه وابني عمه إلى والده ليحضر له (زوادة) الطعام ، وأثناء سيرهم في حقل لرعي الغنم وجد ابن عمه (محمد) لعبة شكلها مستطيل، ولكنه عندما فتحها لم يجد فيها شيء، إذ أنها كانت فارغة من كل شيء إلا الموت ...الذي انفجر بوجهه بعد أن رماها جانباً"!

يقول محمد " في البداية ظننت أنها لعبة وأردت أن آخذها معي إلى المنزل"!

أمنة نصار والدة يزن لم تعلم ماذا حدث بالضبط، وكل ما عرفته في تلك اللحظات هو "أن لغم انفجر وأودى بطفليها إلى المستشفى".

الأخبار القاسية في القنيطرة وريفها أضحت أمراً متوقعاً مع تواترها بين الحين والآخر لتضفي على الحياة فيها الكثير مما لم تبح به شهوة الدمار في الكنائس والجوامع ..

وبين الحين والأخر لا بد من دوي انفجار يمهد للخبر ( انفجر لغم بأخاك أو والداك أو ..أو ..)

والوجود بكل ما يحمله من معنى يحمل صبغته الخاصة هنا، التي تذكرك بعنف بشكل أو بآخر بأنك لا زلت في مدينة تسدد ثمن بالغاً لكونها تقع على خط المواجهة، رغم مضي 34 عاماً على التحرير الذي شمل قسماً من أراضيها، فيما بقي قسماً آخر تحت الاحتلال الإسرئيلي مثل الجولان، بريكة، بيرعجم.

بين المطرقة والسندان

حقول الألغام تلتهم أراضي القنيطرة سواء كانت فردية أو آلية، بينما تفترش المفاجآت الساخنة من القنابل والصواعق حقولها وطرقها غير المعبدة التي تنذر بالخطر، الذي يصل إلى المنازل مع انفجار قنبلة من فترة قريبة ..

القنبلة كانت موجودة في ركام وقمامة أحد منازلها الريفية البسيطة وانفجرت إثر قيام سكانه بحرقها ..دون أن تخلف ضحايا..

لذلك القاعدة والبديهة التي يعيشها السكان، يختصرها تعايشهم الدائم مع الخطر الذي جعل جزءاً كبيراً منهم يعرف الموت والتشوه والإعاقات كحالة عامة تفرضها طبيعة المدينة وطبيعة الحياة فيها في آن واحد، علماً أن الأهالي وبحكم طبيعة المنطقة يمارسون مهنة الزراعة و رعي الأغنام بكل ما يحمله ذلك من خطر محدق من جهة وخسائر، ومن جهة أخرى تغدو معاناة المدينة من البطالة جراء هذا الوضع قدراً أسود يتحكم في مصيرها، خاصة وأن شبان القنيطرة يصنفونها (البطالة)على أنها" أكثر الأنشطة حركة وسواداً فيما بينهم"!

ولا يبدو هذا القدر المحمل بالخطر آيلاً للزوال مع عدم إمكانية تحديد مواقع الصواعق التي تأخذ أشكال شتى بين لعب الأطفال من مسدسات وألعاب الأحرف والمكعبات، إلى الماكياجات بما فيها أقلام الحمرة إلى الصواعق أو الأقلام أو على شكل مذياع صغير..

ولعدم إمكانية الحصر للقنابل والالغام الفردية والصواعق تاريخ طويل ومعروف يعود إلى حرب تشرين 1973 ورفض إسرائيل تسليم خرائط الألغام إثر القرار 338 لوقف إطلاق النار، تلا ذلك حرب تحرير القنيطرة(الاستنزاف) التي بدأت 11/3/1974 مستمرة لمدة (82) يوماً ..لتنتهي في 24/6/1974.

الأهالي الذين نزحوا من أراضيهم مع بدء الحرب عادوا إليها بانتهائها بكل ما خلفه الاحتلال الإسرائيلي من دمار شامل غير مقتصر على حقول الألغام، وانما على الكثير أيضاً من القنابل العنقودية المتشظية في مختلف الاتجاهات..والتي لا تزال تنوء تحت وطأتها القنيطرة وريفها إلى اليوم.

ولا أعتقد أن ثمة حاجة لشرح المزيد أو حتى الوصف فالحالات تفرض نفسها بذاتها .

تسميات متعددة ووجه واحد

1996 طاهر طه كان في طريقه للعمل في أرضه عندما انفجر فيه لغم أفراد، ادى ذلك إلى بتر قدمه اليمين وفقدان عينه اليسرى، وبعد عامين من التنقل بين المشافي والبحث عن طرف صناعي بديلاً لقدمه المبتورة استطاع بعد توكيل محامي من الحصول على تعويض يصفه بالـ "جيد".

رافق ذلك مأساة اخرى تتعلق بسياق الأخبار القاسية لا بل المفجعة، فخبر انفجار اللغم بطاهر أدى لشلل والده إثر إصابته بجلطة دماغية..

1974... شامان المحيا رئيس جمعية المكفوفين " فقد بصره عندما كان في الصف الثامن بسبب انفجار لغم ، ويصنف شامان الإعاقات التي خلفتها الحرب بكونها مزدوجة بسبب تعددها من فقد البصر والسمع والأطراف بالإضافة لكل ما يرافقها من تشوهات".

هذه الجمعيات تتنوع أسماءها ما بين الألغام والمكفوفين والمعاقين ولكنها تتحد في الإعاقة كشرط يفرض نفسه بتنوع الإعاقات في القنيطرة بكل ما تحمله من خصوصية ولذلك ستجد دوماً رواداً لها كحقيقة مرة تفرض نفسها بفجاجة وصلف.

ضمن الانموذجات السابقة يمكن تصنيف سميرة السامية كمثال لإرادة الحياة التي هي أقوى من كل شيء ..

1974 ... كانت سميرة حامل بابنها البكر، كان لها من العمر آنذاك 15 سنة فقط عندما فقدت بسبب لغم يدها وعينها اليسرى وكذلك تشوه جسدها كله، ولكنها لم تفقد طفلها وتقول " لم يتأثر رغم أني كنت في الشهر الأول من حملي وكنا في رمضان تماماً في مثل هذه الأيام من السنة، وأسميت ابني سليم على اسم عمه الذي استشهد في حرب تشرين" ..وهي اليوم أم لعشرة أبناء، وجدة لأربعة أحفاد من ابنها سليم ..

وأخيراً وليس آخراَ ضمن سلسلة الضحايا يكون الطفل ابراهيم شباط(14 سنة) الذي توفي هذا العام قبل رمضان بيومين من قرية دورين، مجرد ضحية أخرى أو مجرد رقم آخر ينضم للائحة طويلة من ضحايا الحرب و منكوبيها..

لذلك لم يكن الوعي في القنيطرة بحكم دروس التوعية النظرية بقدر ما هو وليد العبرة والتجربة القاسية المدوية بانفجارات بين الحين والآخر لتذكر سكانها أن الحرب لم تنته منهم بعد!

وفي ذلك تتساوى قرى القنيطرة من دورين إلى جباتا الخشب إلى جبل ناصر وغيرها من القرى بوضعها كمناطق "لا معلقة ولا مطلقة" وفق المثل الشعبي ، فهي وفق أدبياتنا السياسية والتاريخية ودوريات الأمم المتحدة لمراقبة الحدود التي مضى لها 34 عاماً وإلى اليوم تنهب طرقاتها نهباً جيئة وذهاباً لتراقب الحدود بعد الحرب واتفاق وقف إطلاق النار وفق القرار 338 تعد محررة.

ولكنها ورغم ذلك لا تزال تعاني من القنابل والألغام التي تفجر الجرارات في الحقول على رؤوس أصحابها وأطفالهم الذين لا يملكون بدورهم سوى السؤال" إلى متى ستبقى هذه القنابل المتفجرة تحاصرنا في كل مكان".؟.

مجرد أرقام

عثمان العز رئيس جمعية المعاقين يصف الاعاقات الناجمة لديه عن الألغام بالـ"مرتفعة"، فمن "أصل 360 إعاقة هناك 300 إعاقة ناجمة عن الألغام والقنابل،عدا عن 200 وفاة للسبب إياه"..

ولدى ذكر قائمة الضحايا يذكر عثمان "فقد ابن عمه طاهر في عام 1973 وكان عمره 13 عاما عندما انفجرت قذيفة في فناء منزله بعد 24 ساعة من سقوطها عندما باحة منزله "!

خصوصية وضع القنيطرة اقتضت إحداث جمعية فيها لضحايا الألغام، الجمعية لا يتعدى عمرها العام والنصف وربما لن تستطيع بمفردها النهوض بجملة من الأسئلة التي تقض مضجع روادها من التعويض وإمكانيته وقدره بالنظر لخصوصية وضع وحال المعوقين، إلى ضرورة التوعية التي يصفها الأهالي بالقليلة، إلى الرقابة على حقول الألغام المسورة التي يخترقها الأطفال والرجال لرعي الغنم، حتى أن بعض أهالي القنيطرة يسكن قسم منهم إلى جانبها غير آبه بالخطر الرابض بانتظاره!

ذلك أن القنيطرة التي تمتاز بكونها محافظة رعوية تشتمل على حقول( للألغام) أدت مؤخراً (من أربعة أشهر) إلى وفاة طفل في جبل ناصر وتشوه طفل آخر.

هذا التشوه وهذه الإعاقات تنتظر رعاية خاصة تفتقدها المدينة وتحتاج لها، سواء من حيث التوعية أو الرعاية ..

فاحد الشبان (من ضحايا الألغام ) أخبرني أنه "حاول الانتحار ثلاث مرات، ولكنه بعد أن تيسر له الانخراط في دورات تدريبية خاصة مع المعوقين شارك في عدد من المباريات لألعاب القوى والدراجة الهوائية وأحرز بطولات فيها وذلك باجتهاد الشخصي"..

الأمم المتحدة بوصفها متفرجة!

وقد يكون أكثر الأسئلة إلحاحاً ما يفلشه الأهالي في وجه الأمم المتحدة كمنظمة اكتفت من 34 عام وإلى اليوم بالفرجة فقط ..

قد لا يجد البعض جديداً في ذلك ، خاصة في ظل الاحتلال الأميركي للعراق ولجوء العراقيين في سوريا ووضع اللاجئين العراقيين ودور الأمم المتحدة بمنظماتها لمساعدة اللاجئين الذي لم يفلح في تحسين وضعهم إلى اليوم مع كل المؤتمرات التي عقدتها!

ما يشرع الباب لمقارنات قاسية بين اللاجئين العراقيين والنازحين من القنيطرة المتمركزين في المخيمات التي تحمل في العاصمة السورية أسماء منها ما يدل على كونهم وافدين إلى العاصمة كمخيم الوافدين أو مخيم اليرموك الذين امتلاءا بالوافدين من القنيطرة في حركة نزوح جماعي ..

يقول عثمان " الأمم المتحدة منظمة شكلية تدعم إسرائيل أكثر مما تدعم سوريا، عانينا فترة صعبة جداً في الحرب لم تقدم الأمم المتحدة فيها شيئاً، رغم انقطاع الطعام و الامدادات والمياه لم تقدم شيئاً لأي مواطن أو للمتضررين، لا شيء سوى الدوريات التي تذهب وتعود باتجاه الشريط الحدودي" ..

الأمر الذي يثير السخرية والعجب فالشرق الأوسط ( كما يلقبونه) هو أكثر المناطق تضرراً من القنابل العنقودية وفقاً للمنظمات الدولية...وهو أكثر المناطق اشتعالاً وأكثرها طلباً وتطلباً للمساعدات التي لا تصل غالباً للمصابين!

وعلى وجه التحديد الأطفال الذين تغص بهم أدبيات اليونسيف واتفاقيات حماية حقوق من العنف المنزلي وبروتوكولات النزاعات المسلحة، التي يدفع ثمنها أولاً وآخراً الأطفال كأكثر ضحايا الحرب تضرراً!

بانتظار التعويض

أما الجمعيات التابعة لوزارة الشؤون والعمل فيمكن تقييم إمكانياتها بالبسيطة والمتواضعة، فجل ما يمكنها تقديمها هو راتب 1500 ل س شهرياً، وهو محصور بالضحايا ذوي الأطفال أو ذوي الإصابات البالغة أو الفقيرين جداً، بالإضافة لبعض المساعدات العينية في شهر رمضان من منظفات ومواد غذائية..

والأهالي أو بالأحرى الضحايا في حيرة لمن يلتجؤون ومن يعوضهم؟

بعضهم يذكر أن "وزارة الشؤون والعمل عملت عام 1998 على إحصاء ضحايا بقايا الحرب، وبعضهم تصور مبرزاً إعاقته على أساس وجود نوع من التعويض، ولكنهم عندما قصدوا الوزارة تبين لهم أن الوزارة لا تعرف شيئاً عن الإحصاء ولم يصلها شيء حوله"!

بالإضافة إلى مللهم من زيارة التلفزيون ووسائل الإعلام لهم والحديث معهم وشرح واقعهم دون أن يحسن ذلك من وضعهم بالشكل المطلوب في النهاية..

لذلك يصنف الأهالي أنفسهم وحالهم اقتصادياً مع ندرة فرص العمل والإصابات في أدنى السلم بين المحافظات ..

وهذا يشمل الرعاية الصحية لضحايا الحرب الذين يتكبدوا جزءاً كبيراً من نفقات العلاج!

وبالعودة لأمنة نصار والدة الطفلين يزن ومحمد جريدة أكدت لسوريا الغد " أن الجروح الناجمة عن الشظايا التهبت وكادت أن تتحول إلى غرغرينا تضطرهم لبتر أرجلهم"..

"فالمستشفى (وفقاً لأمنة ) استقبلت الأطفال لمدة محددة وبعد ذلك رفضت استقبالهم، ما اضطرهم للجوء لطبيب خاص بتكاليف إضافية لا طاقة لهم على احتمالها، خاصة وأنهم لم يعالجوا القرنية المشوهة لدى يزن الذي فقد بصره"..

أما عن المساعدات فتقول آمنة" كل ما وصلنا هو 1000 ل س فقط في الشهر الأول من الإعاقة، والتي تحولت فيما بعد إلى 500 ل س، وطلبت منا جمعية المكفوفين فواتير بنفقات علاجهم ولم تصرف لنا حتى الآن، ولازلنا إلى اليوم ننتظر من يضم أطفالنا للدراسة مع الأطفال المعوقين بسبب إعاقتهم دون طائل، رغم بدء العام الدراسي" .!

وأخيراً وليس آخراً!

لدى الحديث عن الإعاقة لا بد من التعريج على المؤسسات العاملة في ميدان الأطراف الصناعية والتي تبين لنا وفي (خبرة ميدانية سابقة ) ندرتها وقلة اختصاصها إن لم تكن ندرته أو حتى عدم توفره لفترة قريبة جداً، الأمر الذي خلف واقعاً مريراً جداً لعدد من الضحايا مع عدم استفادتهم بالشكل المأمول من الأطراف الصناعية لعدم ملاءمتها، وتوجههم للقطاع الخاص الذي يفرض رغم عدم اختصاصه أسعاراً مرتفعة..

علماً أن بعض العاملين في القطاع العام صحياً وبعد خضوعهم لدورات تدريبية توجهوا للقطاع الخاص ما أدى لفقد الكفاءات البشرية المؤهلة في هذا المجال في القطاع العام..

لذلك يبرز دور منظمة الهلال الأحمر كإحدى الجهات التي تعمل على تأمين الأطراف للضحايا لقاء فع نسب معينة من وزارة الشؤون والعمل من جهة ..

ومن جهة أخرى تفيد دائرة الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل في مشفى ابن النفيس عن دورها "أنها تعمل على تقديم الأطراف الصناعية مجاناً للمواطنين السوريين ذوي الحاجة ومن في حكمهم..ضمن الإمكانيات المتاحة" ..

وذلك من خلال " معاينتهم وتحويلهم للجهات المختصة لتصنيع الطرف البديل المناسب على نفقة وزارة الصحة، وقد تم حتى الآن تصنيع 1606 طرف سفلي بديل، و561 طرف علوي بكلفة إجمالية تفوق 60 مليون ل س"..

والدائرة لا تمتلك إحصاءات دقيقة وانما بسيطة لضحايا الألغام والإعاقة، خاصة وأن وزارة العمل التي يفترض انها تقوم بالمسح لم تقدم أرقامها ونتائجها حتى اليوم، رغم انعقاد مؤتمر للمعوقين وصدور قانون خاص بهم..

وتوضح الدائرة أنها "تعمل على ترميم الفقد في الكادر البشري وفروع البدائل والمقومات عبر المعهد المتوسط الصحي في دمشق ، وتوفير كافة التجهيزات المتقدمة لصنع البدائل التي تقول أنها ستكون جاهزة للتشغيل في النصف الأول من عام 2008".

ليبقى في النهاية السؤال معلقاً... مع توفير الأطراف البديلة والدورات التدريبية والتوعية التي ستبقى تستقبل مراجعيها من ضحايا الحرب مع استمرارية مسلسل الانفجارات ..

من يحقن دماء هؤلاء ويضع حداً لمعاناة القلق والأطراف المبتورة ، فقد تساعدهم الأطراف الصناعية على قضاء حوائجهم ولكنها في النهاية لن تقوم مقام أعضائهم وأطرافهم الطبيعية،ولكنها في النهاية هل تمنع عنهم صفة (معاق) أو ضحية (بقايا الحرب)؟؟ ..

مصادر
سورية الغد (دمشق)