ليس معروفاً لماذا تأخرت دمشق في التعاون مع قاضي التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. فهي لا تحتاج الى إعادة تذكيرها بأنها معنية بهذا الحدث باعتبار أنها كانت مضطلعة بمسؤولية أمنية رئيسية في لبنان. المهم الآن أنها عازمة على «تعاون غير محدود» مع التحقيق، والرئيس بشار الأسد قال ان ذلك «في مصلحتي ومصلحة سورية».

ولا شك ان هذا التعاون سيمكن لجنة التحقيق من انجاز عملها في المهلة المحددة التي تنتهي منتصف أيلول (سبتمبر) المقبل، واذا طلبت تمديداً لمهمتها فسيكون تقنياً وليس لأنها تجد نفسها أمام أفق مسدود.

كان القاضي ديتليف ميليس واضحاً في تقريره بأن شهر آب (اغسطس) الحالي حاسماً، ما يعني أنه توصل الى المعطيات التي سعى اليها. ولعل هذه المرة الأولى منذ عقود التي يجري فيها شيء في لبنان ولا تكون لدى سورية فكرة واضحة عنه، اذ ان الأسرار الحقيقية لهذا التحقيق بقيت لدى اللجنة الدولية ولم يتسرب منها إلا ما بلغ السلطات اللبنانية. لكن ميليس أشار الى ان أكثرية الشهود اللبنانيين طلبوا الحفاظ على سرية شهاداتهم وعدم تسليمها الى الجانب اللبناني المفترض أنه «شريك» الى حد ما في التحقيق.

منذ اللحظة الأولى لبدء التحقيق كان مفهوماً أنه مرشح للغوص في متاهة بلا معالم اذا لم ينبر شهود غير متوقعين وقريبين من تدبير الجريمة للإدلاء بما عندهم. يبدو ان مثل هذا الاختراق قد حصل، وان كانت المعلومات عنه غير مؤكدة. واذا كانت «المسؤولية» في جانبها اللبناني قد أصبحت واضحة لدى المحققين، فإن جانبها السوري لا يزال غير محدد، لأن ميليس لم يتمكن من مقابلة المسؤولين السوريين الخمسة الذين يفترض أن لديهم الاجابات عن أسئلته العالقة. فهؤلاء الخمسة كانوا جميعاً في اجتماع ضم رئيس الوزراء الراحل وحده، ويبدو أنه كان اجتماعاً قاسياً الى حد أن الحريري اصيب خلاله، كما يقال، بعارض صحي.

كل ذلك لا يعني اتهاماً ولا تجريماً حتى الآن، ويمكن اعتباره مجرد ظن أو شبهة، ولا أحد يتوقع أن يختم ميليس عمله بمجرد وصف أمني - سياسي - تقني لما سبق الاغتيال. ولن يكون تقريره ذا مصداقية إذا دار فقط في الأجواء التي أوردها تقرير رئيس بعثة تقصي الحقائق من قبله، بل الأكيد أنه دخل عميقاً في التفاصيل وتوصل الى بناء سيناريو مترابط في ما بينها. هل أن لديه اتهامات دقيقة لأشخاص لهم اسماء وليس مجرد القاب مهنية؟ هذا هو السرّ الذي يحتفظ به.

لكن الحركة الموازية للسرية والغموض اللذين يكتنفان عمل ميليس توحي بأنه بات يمسك بمعظم الخيوط. لا بد أن هناك من ساعد التحقيق من داخل المنظومة الأمنية اللبنانية - السورية، وهي منظومة كانت متماسكة بمقدار ما كانت هشة ومفعمة بالثغرات. أما الحركة الموازية فنجدها في أفواج المهاجرين الآنيين من السياسيين اللبنانيين الى الخارج، إذ زادت أعدادهم أخيراً ولحق بهم معاونوهم القريبون منهم، فيما تقلص كثيراً ظهور من بقوا في لبنان فلم يعودوا يتنقلون إلا عند الضرورة القصوى. ولا تعني هذه الظاهرة سوى أن هناك شعوراً لدى هؤلاء بأن القاضي ميليس وضع يده على معظم «الحقيقة». لكنها بالطبع حقيقة من النوع الذي لا بد أن تكون له تداعيات حارقة وربما قاتلة. لذا بات متعذراً على هؤلاء البقاء في بيروت اذ أنهم لا يستطيعون تقدير تلك التداعيات أو تفادي أذاها.

كان تقرير ميليس عمومياً حين أحصى انجازاته، لكنه ذكر أمرين مهمين يتعلقان بـ «مؤشرات محددة الى ما يجب التركيز عليه لتحديد الدافع» لارتكاب الجريمة، وايضاً بـ «مؤشرات محددة الى من يجب التركيز عليه لتحديد مرتكبي الجريمة». واستتبع ذلك بحديثه عن «انعدام الثقة العميق» من جانب الشهود سواء بالأجهزة الأمنية اللبنانية أو بالجسم القضائي اللبناني. وهكذا فإن ميليس أبلغ من يلزم أنه في صدد تحديد القتلة وأن على مجلس الأمن البدء بالتفكير في أي محكمة يمكنها ان يجلبوا اليها... ومن دون تأخير ترجم الوسط الحكومي والسياسي اللبناني هذا الكلام بأن المحاكمة يجب ان تجرى خارج لبنان.

اذاً، دخل لبنان اسابيع خطيرة جداً يصعب التكهن بتطوراتها. لكن بعض ردود الفعل حمل اشارات الى فرز جديد. ففي حين كان الجميع يقول انه يسعى الى «الحقيقة»، بات مؤكداً ان هناك من بدأ يتراجع ومن لا يود كشف تلك الحقيقة لأنه يجد نفسه خاسراً اذا اعلنت. وفي هذا السياق أطلقت ادانات استباقية لـ «تسييس» التحقيق، لكن جريمة سياسية كهذه لا يمكن التحقيق فيها كأنها مجرد واقعة جنائية، فأولها سياسة وآخرها ونتائجها كذلك.

مصادر
النهار (لبنان)