إعادة الانتشار في غزة أدخلت الإسرائيليين والفلسطينيين في مرحلة «ما بعد أوسلو»، أي في مرحلة ما بعد التسوية التعاقدية. لقد أقدم على الخطوة من طرف واحد الزعيم الإسرائيلي الذي لم يعترف يوما بالتسوية المعقودة بين اسحق رابين وياسر عرفات.

وحتى لو افترضنا أحسن السيناريوهات الممكنة، وهو أمر مستبعد، وانتقلت إسرائيل والسلطة الفلسطينية نحو «خريطة الطريق» فإن الصلة بـ «أوسلو» تبقى واهية جدا، وهي كذلك فعلا، بعدما «صادر» الرئيس جورج بوش على عنصرين حاسمين في قضايا الحل النهائي هما: الانسحاب الكامل وعودة اللاجئين.

دخل الوضع في «ما بعد أوسلو» والسجال حول المعاهدة لم يستوف بعد بين مؤيد ومعارض، بين من يرى الفضائل ومن يرى العيوب. ولكن أبعد من هذا السجال ثمة حقيقة لا يختلف حولها الكثيرون وهي أن «اتفاق أوسلو» أحدث نوعا من «الخديعة البصرية».

لقد أنتج وهما يوحي بأن النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي قد حل أو هو في طريقه إلى الحل. لقد ضاع الكثيرون في تعقيدات التقسيمات المعتمدة للأرض الفلسطينية المحتلة عام 67 بين مناطق «أ» و«ب» و«ج» وتناسى هؤلاء أن الضفة الغربية وقطاع غزة بقيا تحت الاحتلال وخاضعين للسيادة الإسرائيلية.

ولقد أحسنت إسرائيل الاستفادة من هذه «الخديعة البصرية» لجهة رفع بعض مسؤوليتها، كدولة محتلة عن الأراضي الخاضعة لها. ولقد استمرت مستفيدة حتى عندما أعادت احتلال المدن الفلسطينية في الضفة من دون أن تكون ملزمة، مقابل ذلك، بتحمل التبعات المادية والمالية لفعلتها.

وكذلك استفادت إسرائيل من الاختراقات السياسية والدبلوماسية التي أحدثتها في بلدان عربية وإسلامية اعتبرت أن لا حرج عليها في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني طالما أن المشكلة انتهت وان الفلسطينيين راضون. إلى ذلك حصل تحول في وضع إسرائيل دولياً بحيث أمكن تحولها إلى واحدة من الدول الراعية للشأن الفلسطيني لا بل إلى دولة «مانحة» طالما أنها تعيد للفلسطينيين بعض ما تجبيه من جمارك على بضائع واردة إليهم!

هنا خطر في أن تتجدد هذه «الخديعة البصرية» بمناسبة فك الارتباط مع القطاع وتحت ضغط الحملة الإعلامية التي رافقته وركزت على معاناة ترحيل المستوطنين من.... أرضهم!نعم لم يبق مستوطن في غزة. ولكن الاستيطان ليس بندا ضروريا في تعريف وضعية الأرض، وما يمكن قوله، بالتأكيد، هو أن الجيش الإسرائيلي موجود حاليا في غزة ولأسابيع. يعني ذلك أن غزة اليوم أرض محتلة ولو خالية من المستوطنين.

تقول الخطة الإسرائيلية أن الجيش سينسحب من القطاع، فهل يعني هذا الانسحاب إذا حصل، نهاية الاحتلال؟ بكلام آخر، هل نحن متجهون إلى وضع تمارس فيه السلطة الوطنية صلاحيات سيادية كاملة على القطاع ولكنها تكتفي، في الضفة بصلاحيات الحكم الذاتي المنصوص عليها في اتفاقات سابقة؟ وهل يمكن أن يحصل ذلك طالما أنه لا وجود لأي ميثاق فلسطيني- إسرائيلي يشكل إطارا ناظما لعلاقة هذه السلطة مع القطاع؟

يتوجب القول، منذ الآن، انه في اللحظة التي يغادر آخر جندي إسرائيلي عمق غزة، فإن القطاع سيبقى خاضعا للسيادة... الإسرائيلية. لماذا؟هناك، أولا، قضية المعابر البرية والبحرية والجوية. من الطبيعي أن تكون إسرائيل ممسكة بجانبها من الحدود البرية مع غزة، ولذا فإن السؤال يتناول وضعية هذه الحدود مع مصر ومع العالم ثانيا عبر البحر والجو.

ففي ما يخص مصر ما زالت إسرائيل رافضة أن يتولى الفلسطينيون وحدهم الجانب الخاص بهم من الحدود ومن طرقات العبور الخاصة بالأفراد والبضائع. وفي ما يخص المطار والمرفأ، وفي انتظار تشغيلهما، سنجد أن إسرائيل ستعارض إيكال الأمر إلى السلطة الوطنية وستبحث عن شكل لوجود مباشر أو لوجود طرف ثالث تكون هي مرجعيته العملية.

لقد حاولت إسرائيل انتزاع اعتراف إقليمي ودولي بان إعادة الانتشار الذي تقوم به تسمح لها بإعلان انتهاء الاحتلال. إلا أن المعلومات تقول أنها لم تنجح في الحصول على إقرار قانوني بذلك ولو أن سياسيين كثيرين أدلوا بمواقف لا تقيم أي اعتبار للقانون الدولي.

يكفي أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت رسميا أنها تمتلك بنفسها حق الدخول العسكري إلى قطاع غزة كلما اعتبرت ذلك ضروريا ليكون في الإمكان القول أن السيادة الفلسطينية على القطاع محدودة في أحسن الأحوال ومعدومة حسب القانون. إلى ذلك، وهنا الأهم، ثمة اعتراف إسرائيلي ودولي، وهو اعتراف موثق في معاهدات وإعلانات ومواثيق وقرارات صادرة عن الهيئات الدولية،

ثمة اعتراف يقول أن «الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة جغرافية» وانه لا يحق لطرف واحد الإقدام على خطوات انفرادية من شأنها تغيير وضع الضفة والقطاع. يعني ذلك، ببساطة، أن فلسطين كلها (إذا سلمنا أن فلسطين هي الأرض المحتلة عام 67 فقط) تكون تحت الاحتلال لمجرد أن تكون بقعة واحدة منها في هذه الحالة، ولمجرد أن الاتفاق التعاقدي حول إنهاء هذا الوضع غير موجود.

بكلام آخر أن الاحتلال لا يعتبر منتهياً إلا عند التوقيع بين الطرفين المعنيين على تصفية شاملة وعلى صفقة شاملة. وإذا كان التعبير المميز عن السيادة هو التحكم بالحدود الخارجية لأي دولة ففي ذلك ما يقطع بان أي نهاية «سعيدة» لعملية إعادة الانتشار ستعني أن قطاع غزة هو، في الواقع، ارض مشمولة بسيادة إسرائيل.

أن «خديعة أوسلو» تتكرر بشكل أكثر فجاجة لأنه، في حالة أوسلو، وافق الفلسطينيون على الصيغة المعتمدة أما في حالة غزة فلم يسألهم احد رأيهم أصلاً. ووظيفة «الخديعة» هذه المرة تشبه سابقتها لجهة تحرير إسرائيل من التزامات الدولة المحتلة التي تنص عليها المعاهدات الدولية،

ولجهة تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عربية وعالمية.وليس سرا أن الولايات المتحدة تنتدب نفسها للمساعدة في أن يحقق «حليفها الاستراتيجي» أقصى المكاسب بما في ذلك نشوء وضع سياسي يرفض أي ضغط للعودة إلى المفاوضات وطرح مصير التسوية الشاملة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)