بينما يفطر اللبنانيون ويصومون على ما سيتضمنه التقرير المرتقب للمحقق الدولي ديتليف ميليس المكلف جلاء غوامض جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه، شهد العراق أياماً صعبة عز فيها التوافق على نص الدستور الجديد للبلاد.

بيد أن حالتي العراق ولبنان مجرد نموذجين من الحالة العربية البائسة. فمن يصغ إلى بعض الوسائل إلاعلامية العربية الرسمية ـ التي دأبت لعقود على استغباء شعوبها وتضليلها من دون أن تعي أنه بات أمام المواطن المقموع متنفسات أخرى بعيداً عن التضليل التبخيري الغبي ـ يتصور أن أوضاع المنطقة في أحسن حال.

هذا التضليل، بالطبع، ضروري جداً لإبقاء القديم على قدمه بلا تغيير.. أو من يغيرون. مع العلم أن الكارثة تتمثل في كون معظم البدائل المطلوبة دولياً ليست أفضل بكثير مما هو مما لدينا. وبالتالي، جرياً على المثل الشعبي السائر المستكين «سيء تعرفه... ولا جيد تتعرف عليه»، ترى المواطن العربي المقهور قليل الاكتراث بما يراه من حوله، ومتشائماً بما يحمله له المستقبل، ومشككاً بنوعية القيادات أو المؤسسات أو البنى السياسية المروّج لها أمامه.

يوم الخميس الماضي طلب عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، «تفسيراً عاجلاً» لما ورد في مسوّدة الدستور العراقي الجديد من «أن الشعب العربي في العراق هو جزء من الأمة العربية»، واعتبر أن هذا التخصيص (الذي فيه استثناء مستتر ولكن مفهوم للأكراد والتركمان والآشوريين والكلدان) ظاهرة «خطيرة للغاية... لأنه يشكك في الانتماء العراقي الشامل لهذه المنطقة والعالم العربي».

أنا شخصياً مع الأمين العام في إبداء القلق على عروبة العراق، مع أنه كان حتى الأمس القريب وزير خارجية في حكومة تتبادل السفراء مع إسرائيل ولا ترفض أن يبادر أشقاؤها إلى التطبيع معها. كذلك، ومع احترامي الشديد له، أرى أن وضع العراق أسوأ بكثير مما نحاول إقناع أنفسنا به.

فهذه البلاد الغالية على قلب كل عربي تعيش اليوم «شوفينيات ارتدادية وانتقامية» عرقياً وطائفياً في سيرها الحثيث نحو هاوية التقسيم. وأزعم أن العجز العربي عن بلورة مفهوم صادق وتقدمي للعروبة المنزهة عن التعصب العرقي (ولو في ثياب أحزاب) أو المطامح الإقليمية أو جنون العظمة الفردي الخطير... أسهم إسهاماً مباشراً في «كفر» غير العرب من العراقيين (وغير العراقيين) بأي شكل من أشكال العروبة. واليوم يرفض أكراد العراق التكلم بالعربية، وكفوا منذ بعض الوقت عن إطلاق أسماء عربية مثل «جلال» و«مسعود» و«محمود» و«مصطفى» على أولادهم. وتوقعي المتشائم أن تمتد عدوى العراق إلى أجزاء أخرى من «الشرق الأوسط الكبير» بما فيه شمال إفريقيا في المستقبل المنظور.

إننا، في خضم مقاومتنا التعصب الأخرق والجمود الفكري المريض نقفز أحياناً في الفراغ... فنسيء من دون قصد إلى الغاية العليا من معركتنا من أجل بناء مجتمعات منفتحة وديمقراطية قابلة على التعايش والحياة. وبين الذين يتخوفون اليوم من تقسيم العراق ليس فقط بقايا «القومجيين» (وفق تعريف تلامذة «المحافظين الجدد»).. بل العقول المستنيرة في الغرب، بل في الولايات المتحدة بالذات. فأقوى انتقاد صدر خلال الأسبوع الفائت لمسودة الدستور العراقي جاء في صحيفة «النيويورك تايمز» التي رأت فيها أنها «لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم».

كلمة أخيرة... في عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي اختل التوازن في الشرق الأوسط لغير صالح التيارات اليسارية... فذلّ اليسار ودجّن. وبعد كامب ديفيد وما تلاه من دعوات «كيانية» ضيقة تستنهض الفرعونية والفينيقية والآشورية و«الإفرقة» رداً على «عروبة» العشائر والعسكر والعائلات أتيح المجال لإسقاط الخيار القومي. وبالنتيجة خلت الساحة لـ«الأصولية» الدينية، رغم تشدد تياراتها الإقصائية، فوجدها كثيرون آخر فرص منع التفتيت.

فهل بقي مجال للعودة إلى خيارات التعايش المعتدل أم... أن الجميع أضحوا في قارب مثقوب يتهادى في مستنقع «السلام الإسرائيلي» من دون قبطان؟

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)