من مفارقات المرحلة الحالية في لبنان ان الدعوة لـ"اصلاح الاجهزة الامنية" هي دعوة لسيطرة ميزان القوى السياسي الجديد ما بعد الخروج العسكري السوري على هذه الاجهزة، أي انها دعوة "غير اصلاحية" بمعنى أنها لا ترتبط بملف الاصلاح الشامل وإنما بالمسؤوليات الملحة الناتجة عن الفراغ الأمني، بينما الدعوة لـ"اصلاح القضاء" فهي فعلاً اصلاحية لانها لا ترتبط مباشرة بميزان القوى السلطوي وحده، بل هي – وهذا هو جوهر المفارقة – ضد السلطة! او بامكانها ان تكون كذلك.

لهذا فإن الدعوة الاولى جدية والدعوة الثانية غير جدية بمعايير السياسة الواقعية في لبنان!!

المفارقة الثانية اننا دخلنا بعد الخروج العسكري السوري في مرحلة لا يعتمد فيها "الامن السياسي" اللبناني على الاجهزة الامنية! خلافاً لما كان عليه الوضع في العهد السوري الذي كان بسبب بنيته الامنية يعتمد على فاعلية الاجهزة الامنية اللبنانية في تقنيات الامن السياسي مثل اعتماده على السياسيين "المدنيين" اللبنانيين الموالين لتثبيت هذا الامن.

الآن لا يحتاج الامن اللبناني السياسي في العهد الاميركي الفرنسي الى اجهزة امنية لبنانية قوية بالضرورة لحماية الامن اللبناني، الذي للاميركيين مصلحة كبيرة اكيدة في تثبيته بسبب مشروعهم الهجومي الحالي في المنطقة (الجيش هو غير الأجهزة). فالامن يعتمد على معادلة خللها الراهن ليس داخلياً اساساً لانه خارجي، كما انه ليس امنياً لانه سياسي!

القوى السياسية اللبنانية الحالية المعتمدة من المرجعية الاميركية الفرنسية لا تستطيع ان تنتج "نصاباً" (بكسر النون) واحداً او حتى موحداً للامن السياسي.

النصاب السياسي للاجهزة الامنية يوفره النظام الدولي بقوتيه الاميركية والاوروبية. وليس من كفاءة تقنية تستطيع ان تمنع الخلل الامني اذا كان الصراع السياسي مندلعاً. هذا لا يعني التقليل من اهمية التطوير الدائم للكفاءات الامنية، بشراً وتجهيزاً، وانما لوضع المسألة في سياقها السياسي الاصلي. كما ان التشديد على العنصر السياسي للضبط الامني لا يعني إغفال مدى ما تستطيع الكفاءة الامنية ان تحد من الفلتان الامني.

إن احد ابرز الامثلة العربية – بل العالمية – اليوم على الاستقرار الامني هو حالة مدينة دبي. هذه المدينة التي تتحول – وقد تحولت - الى ظاهرة رائدة في تقدم قطاع الخدمات من التكنولوجيا الى السياحة الى التجارة، هي نفسها أحدثت تغييراً على مستوى المعادلات الامنية العربية لا تلحظه الكتابات السياسية العربية.

فدبي اليوم هي عنوان لأولوية الامن السياسي في حماية الامن على الامن الامني رغم الكفاءة المشهود بها لشرطة دبي واجهزتها الامنية.

لقد سادت طويلاً نظرة أمنية جداً الى الامن في منطقة الخليج فكان التشدد في منح سمات الدخول احدى علامات هذه النظرة الامنية التي بدت مفهومة في دول تعاني من فرضيات أطماع كثيرة بثرواتها.

دبي غيّرت النظرة اذ قدمت وتقدم تجربة أخرى، يثبت فيها ان العنصر الأهم للاستقرار الامني هو الامن السياسي. فبينما تعاني بعض دول التشدد في منح السمات مشاكل امنية كبيرة مثل السعودية، تبدو دبي شبه المفتوحة للدخول – ناهيك عن تسهيلات الاقامة والعمل غير المألوفة - واحة كاملة من الاستقرار الامني.

... الجواب الذي قدمته وتقدمه تجربة دبي هو ان المعادلة السياسية الاقليمية والدولية هي التي تحمي الامن اساساً. فالمملكة السعودية ذات السلطة المركزية القوية التي لا شك بقوتها تواجه مشاكل التفجير والارهاب لأن "المعادلة" السياسية الاقليمية – الدولية اختلت حولها مما أفلت العقال لتنظيمات سرية تحاول ان تلعب بأمن المملكة وتحديداً المنظمة الشهيرة باسم "القاعدة".

في بيروت المعادلة السياسية للأمن مختلة مع الانتقال من مرحلة الى مرحلة اصبحت مرجعيتنا السياسية فيها هي المرجعية الاميركية – الفرنسية وبالتالي اصبحت هي المسؤولة فعليا عن الامن. وهذه هي الضمانة باعتبار لا ضمانة داخلية للأمن السياسي الشامل في لبنان، على اهمية وضرورة ولا بدائلية طبعا الاجهزة الامنية اللبنانية لتطبيق فعال لهذه الحماية السياسية للامن، ناهيك عن بديهية حماية الامن الاجتماعي.

المثال الرئيسي، بل الاول، بل ربما الوحيد هنا، على التفاعل بين الحماية السياسية للأمن والاستقرار الامني الوطني هو المتمثل بوضع الجيش اللبناني اليوم.

لقد ادى قرار "النظام الدولي" بالحماية السياسية للجيش الى منع محاولة اي تلاعب بوحدته الداخلية يمكن ان تلجأ اليها قوى محلية او ان تؤدي سلوكيات فئوية لقوى محلية اخرى الى حصولها. وافرّق هنا بين ارادة التفكيك والوصول الى التفكيك من حيث النتيجة لا الارادة لأن التقاليد الفئوية للقوى السياسية اللبنانية، وهي الآن في اكثر ايامها تبلورا حزبيا قياسا بكل تاريخ الجمهورية، هذه التقاليد الفئوية قد تنتج احيانا سلوكيات فئوية تؤذي وحدة المؤسسة العسكرية دون ان يكون هناك بالضرورة "نية" لذلك. فـ"الفئوي" فئوي في لبنان، اي تفكيكي، سواء كان حسن النية او سيىء النية. فكيف اذا كان سيىء النية بمعنى الاهداف الفئوية التي تصور لهذا الطرف الفئوي او ذاك، بعد تجربة الحرب الاهلية، ان قوة المؤسسة العسكرية المركزية اذا تجاوزت حدا معينا من التماسك فهي تشكل خطرا على قوته السياسية، حتى في بلد باتت "دولته المركزية" حصيلة مباشرة لتوافق اجهزة طائفياته السياسية، وانتهت بذلك حقبة بل حقبات كانت فيها "الدولة" دولة النظام الطائفي بالولادة، لها فسحة نسبية من "الاستقلال" عن الشخصيات والاحزاب الطائفية تستطيع معها ان تفرض داخل الطوائف بعض التمثيل الآتي من "المركز"، وليس من الزعامة الطائفية. هذا كله انتهى الآن في الدرجة التي بلغها نوع تبلور النظام الطائفي الذي تمسك به الآن الاحزاب الطائفية بشكل كامل. (السؤال بين قوسين حتى لا نخرج "كثيرا" عن الموضوع الامني: هل لا زال لـ"الدولة" بسبب وجود المرجعية الخارجية مع الاميركيين والفرنسيين حاليا، امكانية "فرض" تمثيل جزئي على احزاب الطوائف، كما كان الامر حتى في المرحلة السورية المنتهية الآن عندما كانت المرجعية السورية حتى وهي في ذروة استتباعها للقوى المحلية تختار معظم التمثيل من خلال هذه القوى، وتفرض جزئيا بعض التمثيل عليها؟).

ينحرف السجال المحلي المتواصل حول الاجهزة الامنية في بعض الاحيان نحو تلميحات معينة الى الجيش. هذه لعبة خطرة وغير مسؤولة. فالمفترض ان ثمة توافقا بين المختلفين المحليين على حصر معنى "الاجهزة الامنية" في نطاق الاجهزة المخابراتية، ضمن السجال المفتوح منذ محاولة اغتيال مروان حماده، والمندلع منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه.

اما الجيش، فلماذا – ايا تكن الشعارات – محاولة اقحامه في السجال – وايا تكن الخلافات – ظهور المرجعية الخارجية (الاميركية – الفرنسية) وحدها التي يعتمد عليها للحماية السياسية للمؤسسة المحترمة التي لا غنى عن دورها؟

يبقى القول... لربط ما ليس مربوطا اليوم في النقاش العام انه عندما تبلغ الحياة السياسية مرحلة "صحية" اي تنتهي معها هامشية التيار الاصلاحي، سيكون النقاش عندها حول اصلاح القضاء هو النقاش الاعلى صوتا في البلد، والاكثر اهمية لأمن الدولة الديموقراطية والمجتمع... بالمعنى الابعد للكلمة، لا لمصالح "انظمة الحكم" داخل الطائفيات السياسية.

وحده التقرير الاخير لديتليف ميليس ربط علنا بين جريمة الاغتيال وعدم الثقة الفعلية بالقضاء اللبناني في صيغته الحالية... وبلسان لبنانيين!

مصادر
النهار (لبنان)