أفاد نبأ تداولته مؤخرا بعض الصحف، أن السلطات السورية تعتزم الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، بالتزامن مع رحلة الرئيس بشار الأسد إلى الأمم المتحدة للمشاركة في قمة الألفية، المقرر انعقادها في نيويويورك مابين 14و16 أيلول/سبتمبر.إن الهدف من وراء ذلك أولا، تجنب الوقوع في حرج أثناء حضوره لحدث دولي

على هذا القدر من الأهمية، لاسيما وان المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان مازالت تصنف سوريا في عداد الدول لأكثر استبدادا في العالم. وتتوخى العملية في الدرجة الثانية، الحصول على شهادة حسن سلوك من خلال الإيحاء للمجتمع الدولي أن النظام السوري في طور تغيير سلوكه ليتماشى مع القوانين والأعراف الدولية. وإذ لايسع المرء إلا أن يشعر بالغبطة لإخلاء سبيل وتحرير مواطنين تم احتجازغالبيتهم وامتهان كرامتهم لسنوات طويلة من دون وجه حق، فانه في نفس الوقت يستهجن هذا الأسلوب الشمولي البالي، الذي مازال يتعامل مع السوريين كرهائن يخضعون للمساومة.وليس سرا أن الكثير من المعتقلين الذي امضوا فترات طويلة خلال عهد الأسد الأب ، ماكانوا ليروا النور لولا الضغوط الدولية التي كانت تنطلق من قواعد دفع النظام السوري لاحترام حقوق الإنسان .لكن المفارقة المحزنة هنا، هي أن النظام في كل مرة كان يفرج فيها عن معتقل سياسي، يطالب بثمن سياسي أو اقتصادي أو ما شابه ذلك، ضمن مقايضة مكشوفة.وثمة من تحدث خلال العقود الماضية عن مذاهب في الاحتيال والتدليس، فكلما كانت البلاد على موعد مع زيارة رئيس دولة ذات ثقل خاص، سارعت الأجهزة الأمنية إلى الإفراج عن بعض المعتقلين، منهم بعض الشخصيات السياسية المعروفة. لقد حصل هذا الأمر مرة أو مرتين، لكن اللافت هنا هو أن الكثير ممن أفرج عنهم في مناسبات سابقة كانوا يقضون محكوميات لجرائم اقتصادية، وخصوصا السطو على المال العام، ويعرف السوريون أن هؤلاء جزء من جهاز المافيا الحاكم.

غالبا ماجرى النظر إلى خطوات من هذا النوع على أنها من قبيل رفع الحرج عن الضيف الأجنبي أمام الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت كان النظام يستغل هذا الجانب ليوحي بمرونة هدفها في نهاية المطاف تبيض سجله. أما على المستوى الداخلي، فانه لطالما سوق العملية في إطار خرافة الانفراج السياسي وفتح صفحة جديدة مع المجتمع.لكن ذلك لم يتجاوز الاستثمار والتوظيف الآني للقضية.

على العموم لايكفي أن يغادر السجين السياسي حدود جدران الزنزانة، ويخرج إلى الهواء الطلق لكي يصبح حرا بالمعني الفعلي.إن غالبية من اعتقلوا وأفرج عنهم منذ السبعينات وحتى اليوم، لم يستعيدوا حقوقهم الأساسية في العمل وحرية السفر ، بل إن هذه الفئات وهي تعد بالآلاف تجد نفسها إزاء وسائل تعذيب جديدة، مثل السوق إلى الجندية في سن يقارب الخمسين، وأوضاع صحية متردية بسبب سنوات الاعتقال الطويل وأساليب التعذيب والتغذية السيئة والزنزانات الانفرادية .وقد بدأ بعض هؤلاء مؤخرا حركة احتجاجية ضد أساليب التنكيل تستحق كل الدعم، وقاموا بنشر بيان على موقع "الرأي" يشرح المعاناة التي يعيشونها.ان الأسماء الموقعة تتجاوز ال 300 وهو رقم ليس بالقليل، ومع ذلك هناك أسماء كثيرةاخرى لم تتضمنها اللائحة المفتوحة، مثل المعتقل السابق والكاتب المرموق ياسين الحاج صالح الذي منع مؤخرا من حقه في جواز السفر.ولكي يكون لحركة الاحتجاج صداها يجب أن تسبق هذه اللائحة بشار الأسد إلى الأمم المتحدة في صيغة شكوى ، لاتقتصر على المطالبة بالحقوق الأساسية المدنية والسياسية لهذا العدد الكبير، بل أيضا، التعويض المادي والمعنوي عن سنوات السجن والتعذيب، ومحاكمة المسئولين عن هذا الملف.من دون ذلك سوف تظل كل تسوية ناقصة مبتورة ولطخة سوداء في سجل سوريا السياسي والأخلاقي.

لسوء حظ سوريا أن هذه الفئات تشكل نخبة متعلمة ومثقفة، واغلبها من حملة الشهادات العليا.لقد قرر حكام هذا البلاد منعها من الاستفادة من خبرة جيل من أبنائها، لا لسبب، سوى خوف المافيات الطائفية والعسكرية الحاكمة من الرصيد الأخلاقي الكبير، الذي يمثله هؤلاء في وجدان الشارع السوري المغلوب على أمره مؤقتا.

جرب النظام خلال هذه السنة مقايضة ورقة المعتقلين السياسيين، لكنه لم يحصل على الثمن الذي كان ينشده. وكانت المحاولة الأخيرة في حزيران/يونيو الماضي خلال زيارة وفد أوروبي لدمشق برئاسة بياتريس بياتري.جرى استقبال الوفد على نحو ملفت وسمح له بلقاء لجان حقوق الإنسان والعديد من المعتقلين السياسيين السابقين.ولابد أن يلاحظ المتابع لتلك الزيارة أن السلطات السورية قدمت للوفد الأوربي خلالها قدرا كبيرا من التسهيلات، حتى أن بشار الأسد أصر على استقباله ، حيث ناقشت معه المسؤولة الأوروبية ملف المعتقلين السياسيين وطلبت السماح للوفد بزيارة عدد منهم، وعلى نحو خاص النائب رياض سيف.إن اللافت هنا هو أن الوفد الأوروبي خرج بانطباع ايجابي من اللقاء، وساد الاعتقاد أن طلباته سوف تلبى في اليوم التالي، لأن المنطق يفترض أن النظام السوري بحاجة لتطبيع علاقاته مع شعبه ، ومع المجتمع الدولي بعد إخراجه من لبنان، عدا عن أن التهم الموجهة للمعتقلين واهية ولا تستند إلى معطيات ملموسة، فماذا يعني الحكم بسجن نائب منتخب بالفعل وليس بالتزوير، مثل رياض سيف، بتهمة "إضعاف الشعور الوطني"؟

لم يخطر لأحد من أعضاء الوفد أن ملف المعتقلين يمكن أن يخضع للمساومة، بحيث يمكن أن يصبح المقابل لزيارة زنزانة سيف وتحريره من السجن، قيام الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاقية الشراكة مع سوريا، المجمدة لأسباب سياسية منذ حوالي سنة بعد التوقيع عليها بالأحرف الأولى.صحيح أن موضوع حقوق الإنسان شرط من شروط الشراكة، لكنه ليس العائق أمام التوقيع النهائي للاتفاقية، الذي يتعلق بالدرجة الأولى بقرار مجلس الأمن 1559 الخاص بلبنان.

هذا ما كان.غادر الوفد دمشق من دون أن يلتقي أحدا من المعتقلين، لكنه كان يأمل أن يكون لطرحه القضية مع السلطات السورية صدى من خلال الإفراج عن بعضهم، خصوصا ممن تستدعي حالتهم الصحية الحرجة ذلك، كما هو حال رياض سيف، لكن هذه الآمال خابت.وكانت الرسالة واضحة لاتقبل التأويل:تحرير المعتقلين مقابل الشراكة.

إن التعامل مع السوريين بوصفهم رهائن تتم مقايضتهم، لايوحي بقرب الإفراج عن المعتقلين السياسيين سواء ذهب بشار الأسد إلى نيويورك أم لم يذهب.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)