لننسَ أن التاريخ يعيد نفسه فما كان مأساة، مرة، يكون مهزلة مرة ثانية. عندنا، يكرر التاريخ نفسه فيكون مأساة، مرة، وأشد مأساوية ثانية.

ننسى ذلك ونتساءل: هل من علاقة ما بين خطة فك الارتباط في غزة وإحالة الدستور العراقي على الاستفتاء في ظل التباينات المعروفة حوله؟ هل القضيتان منفصلتان؟ هل هما حدثان قابلان للاندراج في سياق واحد، مع غيرهما، من منظور المواجهة المستمرة بين القوى الخارجية الاستعمارية والقوى التي تقاتل، متراجعة، دفاعا عن المنطقة ومصيرها؟

نضع التزامن بين <<خطة غزة>> و<<دستور العراق>> جانبا لنميل الى القول ان ما يجمع بين الحدثين اعمق من <<العارض الزمني>>.
إعادة الانتشار الاسرائيلية في غزة تراجع مؤكد. هذا احد الوجهين. الوجه الآخر هو ان إعادة الانتشار في عرف النخبة الاسرائيلية الحاكمة اليوم، بيمينها ويسارها، لحظة في مشروع اعم يسعى الى ضمان التوسع في الضفة الغربية ومنع اي حل لقضية فلسطين يتمتع بحد ادنى من العدل.

وضع دستور عراقي جديد بعد نقاشات صاخبة وعلنية يمكنه ان يكون تقدما. إلا انه بعيد كل البعد عن الاوصاف التي يسبغها عليه جورج بوش وأركان الادارة. انه تثبيت للانقسامات في العراق وحض على المزيد منها. لقد بات في وسعنا ان نلاحظ، مع بعض المجازفة المحسوبة، انه، في المدى المنظور، لن تقوم قائمة لدولة مركزية جديرة بهذا الاسم في العراق.

تمثل الواقعتان رجع صدى لما شهدناه قبل حوالى تسعين عاماً. انها صيغة متجددة لشكل الارتباط العضوي الذي كان قائما بين سايكس بيكو ووعد بلفور. فتقسيم المشرق العربي حسب الاهواء والمصالح الاستعمارية كان شديد الصلة بوعد الوطن القومي لليهود. وربما ما كان لهذا الوطن ان يرى النور لولا اسباب عديدة بينها، بالتأكيد، السيطرة المباشرة على المدى الاقليمي المحيط به.
ها نحن، بعد عقود، نواجه القضية نفسها حاصدين في آن معا نتائج فشلنا وأحباطاتنا ولكن، ايضا، آثار الإصرار غير العادي للتحالف الكولونيالي الصهيوني على إخضاع المنطقة والنجاحات المتحققة على هذا الصعيد.

تستعيد المرحلة الجديدة الثالوث المسؤول عن النكبات. الاستعمار المباشر يعود. المشروع الصهيوني يدخل في اندفاعة توسعية جديدة ساعيا الى قضم المزيد من ارض فلسطين. وما كان إحباطا لأي مشروع توحيدي يتحول الى تهديد مباشر يرمي الى إضعاف الدول القطرية المركزية.

ان الضلع الثالث في هذا الثالوث، إضعاف الدول القطرية المركزية، هو، على ما يبدو، وجهة عامة. لن يكون مسموحا لدولة من هذا النوع بأن تنشأ في فلسطين. والحدث العراقي الدستوري خطوة هائلة الاهمية في هذا المنحنى. وربما كان هذا هو الأفق
المرسوم لسوريا وغيرها. ويمكن الجزم ان هذا هو، من وجهة نظر دول الوصاية الجديدة، الأفق اللبناني، وهو أفق ندخل فيه، يوما بعد يوم، باحتفالية تستدعي الرثاء.

لا شك في أن إضعاف الدور المصري هو <<أم المصائب>> في هذا المجال. لم يحصل ذلك، أساسا، عبر التشكيك العميق بالدولة القطرية المركزية في مصر. ولكنه حصل عبر حرمانها من ان تتمتع، مثل الدول المركزية الاخرى في المنطقة، والمقصود اسرائيل وتركيا وإيران (مع التفاوت بينها)، بمدى حيوي استراتيجي ترسم على أساسه سياساتها، وتسعى الى نوع من المواءمة بين مصالحها الوطنية ذات المدى العربي (والافريقي) وبين اضطرارها الى اخذ المعطى الدولي الجديد وأحاديته القطبية بالاعتبار. لا دور جديا لمصر حيال ليبيا ولا حيال السودان. أما دورها الفلسطيني فخاضع لتطويع استثنائي. ويترك باقي سكان المشرق على جوع يستصرخ حضوراً مصرياً مفقوداً.
كان يطيب لياسر عرفات ان يقول <<مصر دولة. الباقي كانتونات>>. هذا صحيح بمعنى انه من دون مصر يصبح الخطر ماثلا وهو ماثل على امتداد المشرق العربي كله.

إن المرحلة المتميزة ب<<خطة غزة>> و<<دستور العراق>> تحمل الملامح الخطيرة كلها: امساك اميركي بمفاصل المنطقة مع توزيع ادوار لشركاء دوليين، ارغام دول عربية على الانكفاء داخل حدودها او اداء دور الكومبارس في المشروع الكبير، محاولة تفكيك الدول العاصية او العاجزة عن التكيف مع الجذرية المستجدة، إطلاق يد المشروع الصهيوني للتوسع المحسوب في فلسطين.

مصادر
السفير (لبنان)