ها هو الانسحاب يحدث فعلا، لقد تم أخيراً تنفيذ الخطة الإسرائيلية بفك الارتباط أحادي الجانب مع غزة وتفكيك المستوطنات كما كان مخططا له دون حدوث صدامات. فكما طالعنا في الصحف وشاهدنا على شاشات التلفزيون لم يبدِ المستوطنون أية مقاومة عنيفة حيال عملية الإخلاء التي نفذها الجيش الإسرائيلي، ولم يرتكبوا أياً من الأمور التي توعدوا بها في السابق مما يمكن أن يعيق خطة شارون. وبنفس الاتزان والتعقل قابلت حماس عملية إخلاء المستوطنات بإيقاف عملياتها التي كان من شأنها أن تعيق الانسحاب الإسرائيلي وتجعل منه عملية صعبة للغاية. أما الآن وقد خرج المستوطنون من غزة دون مشاكل فقد أصبح الفلسطينيون طلقاء فوق أراضيهم وتخلصوا من الآثار الأليمة للاحتلال التي كانوا يخضعون لها في الماضي بشكل يومي. وبالرغم من إشادتنا بعملية الانسحاب التي أقدمت عليها إسرائيل وإنهاء احتلال غزة الذي دام طويلا، إلا أنه لابد من إبقاء نظرة دقيقة وحذرة على الأحداث لا يحجبها التفاؤل الذي يسود الانسحاب الآن.

فعلى كل لم يقم شارون بأكثر من إعادة جزء بسيط من الأراضي إلى الفلسطينيين. وهو لم يقم سوى باحترام -وإن كان ذلك جاء متأخرا جدا- لقواعد القانون الدولي التي تحرم احتلال أراضي الغير عن طريق القوة العسكرية وإبقائها في حوزة المحتل. وفي الوقت الذي ركزت فيه وسائل الإعلام على مشاعر الألم والحزن التي خالجت عائلات المستوطنين وهم يتركون بيوتهم، أغفلت الحقيقة المتمثلة في أن هؤلاء المستوطنين أنفسهم كانوا يسكنون بيوتاً فوق أرض ليست لهم وتمكنوا فقط في امتلاكها عن طريق القوة الغاشمة وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية في العيش بسلام فوق أرضهم. فكيف يعقل أن يحتل 8000 مستوطن 40% من أراضي قطاع غزة، التي تشمل المستوطنات، والمناطق العازلة، فضلا عن الطرق الالتفافية وما تقضمه من مساحة واسعة من الأراضي، في حين أن 1.4 مليون فلسطيني محشورون فيما تبقى من الأراضي. وحتى عندما قرر شارون البدء في عملية إخلاء المستوطنات فإنه أبلغ المستوطنين بوقت كافٍ ليرتبوا أنفسهم وقدم لهم تعويضات سخية. وبالطبع لا شيء من ذلك يسري على الفلسطينيين الذين كثيراً ما رأوا منازلهم تهدم أمام أعينهم من قبل الجنود الإسرائيليين "لأسباب أمنية" دون الحصول على فلس واحد.
وبصرف النظر عن الانسحاب الذي تم فعلا يبقى التساؤل حول الظروف التي تم فيها وهل كان انسحاباً كاملاً يشمل كافة القطاع أم تركت مناطق تحت الاحتلال؟ وهل سيتسلم الفلسطينيون السيطرة على المعابر الحدودية والموانئ؟ أم ستبقى تحت سيطرة إسرائيل؟ ولحد الآن يبدو أن إسرائيل غير مستعدة لتحمل المسؤولية الأمنية المترتبة عن الاحتفاظ بتلك المعابر في حوزتها، لذا قررت تركها للفلسطينيين بتنسيق مع مصر بعدما وافقت هذه الأخيرة على نشر جزء من قواتها على طول حدودها مع غزة لتمنع تهريب السلاح من مصر إلى داخل القطاع. ولئن كان ربط قطاع غزة بمصر يعتبر أساسياً على الصعيد الاقتصادي بالنسبة للفلسطينيين الذين سيستفيدون في معاملاتهم التجارية مع جارتهم الكبرى مصر، إلا أن الأهم من ذلك هو ربط القطاع مع الضفة الغربية وتسهيل عملية مرور المواطنين في أفق قيام دولة فلسطينية متصلة الأراضي وقابلة للحياة. وفي هذا الصدد يتعين على رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس أن يثبت للفلسطينيين أن إنهاء الانتفاضة المسلحة سوف يفسح مجالاً واسعاً أمام تحسين وضعيتهم المعيشية عن طريق توفير فرص العمل لهم وتعزيز الأمل لديهم بقيام دولة تمتد من الضفة الغربية شرقاً إلى قطاع غزة غرباً.

ولم يعد خافياً أنه بدون تعزيز الأفق السياسي والاقتصادي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن ذلك سيدعم موقف "حماس" لدى عموم الشعب وسيقوي من خطابها المناهض لإسرائيل لدى فئات واسعة من الفلسطينيين الذين لن يجدوا من حل سوى الانخراط في العمليات المسلحة ودعم منفذيها. وفي المقابل سيولد ذلك ردة فعل قوية داخل إسرائيل حيث سيتنامى الخطاب الذي يعارض الحوار مع الفلسطينيين. ولعل أول خطوة يبدأ بها شارون على طريق التسوية النهائية هي الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين حول الانسحاب من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتمهيد الطريق لاتفاق سلام عادل ودائم. بيد أننا ندرك جيدا أن شارون لا يتحرك إلا من وحي المصلحة الإسرائيلية، وهو لم ينسحب من غزة إلا بعدما أصبحت عبئا ديموغرافياً يهدد الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل، وتأكد أن التخلص من غزة هو أيضا التخلص من 1.4 مليون فلسطيني. غير أن إخلاء ألفين أو ثلاثة آلاف من الوحدات الاستيطانية في غزة لا يعني أن يقدم شارون على إخلاء الوحدات الأكبر في الضفة الغربية، بل بالعكس من ذلك يقوم حالياً بمضاعفة جهود بناء المستوطنات في الضفة الغربية بما يفوق بكثير ما تم إخلاؤه في غزة. إضافة إلى ذلك مازال بناء الجدار العازل مستمرا بشكل يضم الكثير من الأراضي الفلسطينية إلى داخل الخط الأخضر مع الاستمرار في عملية طرد الفلسطينيين من القدس الشرقية والاستحواذ على أملاكهم. وتكمن مشكلة الجدار في المسار الذي اتخذه داخل الأراضي الفلسطينية وليس في المبدأ ذاته. فالمعلوم أن إسرائيل تستهدف ترسيم الحدود المستقبلية لدولتها وهو ما يهدد في الوضع الحالي إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه فإن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم في النهاية أمام عرض للسلام أقل بكثير من الاقتراحات التي كان تقدم بها إيهود باراك في كمب ديفيد سنة 2000، وهو الاقتراح الذي ينعت زوراً وبهتاناً بالفرصة الذهبية التي أضاعها الفلسطينيون. ولن يتجاوز العرض الجديد الذي سيقدمه شارون الحصول على قطاع غزة وجزء من الضفة الغربية، لكن دون الحديث عن القدس.

لكن كيف سيقابل الفلسطينيون الاقتراحات الجديدة التي يراد تسويقها من قبل شارون في ظل التعنت الإسرائيلي؟ هل سيواجهون ذلك بنوع من التراخي واللامبالاة؟ يراهن العديد من الإسرائيليين على تعب الفلسطينيين من المواجهات العنيفة التي أرهقتهم طيلة الأربع سنوات الماضية، وأنهم غير مستعدين لاستئنافها مجدداً في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين. غير أن ذلك التراخي الذي يراهن عليه شارون يجافي الكثير من الحقيقة، حيث من المتوقع أن يؤجج الموقف الإسرائيلي الصراع مجدداً ويطلق العنف الفلسطيني من عقاله. ولعل ما يجب أن يفهمه الإسرائيليون جيداً في حالة إصرارهم على التمسك بالقدس أن ذلك سيوسع من دائرة الصراع، وبدلاً من أن يقتصر على الجانب الفلسطيني أو العربي، فإنه سيأخذ طابعاً إسلامياً بالنظر إلى المكانة الرمزية التي تحتلها القدس في قلوب أكثر من مليار مسلم. لذا فإن إصرار إسرائيل على عدم اقتسام القدس يمكن أن تتمخض عنه عواقب وخيمة قد تهدد استقرار السلم والأمن العالميين.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)