هل دخل التحقيق الذي يقوده المحقق الألماني ديتليف ميليس في عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري مرحلة جديدة؟ هذا ما تعتقده أكثر من جهة لبنانية, بعدما أعلن عن توقيف رؤساء أجهزة أمنية, كانوا على رأس المسؤولية الأمنية اللبنانية حين تم اغتيال الحريري، والنائب السابق ناصر قنديل تنفيذاً لمذكرة صادرة عن الجهات القضائية المختصة التي تعود لها حصراً سلطة اصدار مذكرات التوقيف استناداً الى تفاهم بين لجنة التحقيق الدولية والحكومة اللبنانية يقضي بأن تطلب اللجنة, عندما ترتأي, من القضاء اللبناني التحرك.

ها هي رموز الأجهزة الأمنية التي طالبت قوى انتفاضة 14 آذار باقالتها ومحاكمتها رهن التحقيق بصفة "مشتبه بها", اللواء جميل السيد, واللواء علي الحاج والعميد مصطفى حمدان والعميد ريمون عازار وغيرهم من بعض العناصر الأمنية والعسكرية. وجرى ذلك كله بموافقة النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا وبايعاز من رئيس لجنة التحقيق الدولية الذي طلب سوقهم مجدداً الى التحقيق وتفتيش منازلهم باستثناء حمدان الذي حضر طوعاً.

لقد راجت أمس مع الإعلان عن استدعاء هذه الرموز الأمنية مقولة تداولتها بعض الدوائر السياسية، وهي ان إعلان الرئيس بشار الأسد عن استعداد سورية للتعاون مع ما يطلبه ميليس، قد فتح الباب واسعاً أمام لجنة التحقيق الدولية للتحرك بحرية ومن دون حذر حيال استدعاء وتوقيف من تريد ممن يوصفون انهم رموز النظام الأمني اللبناني ــ السوري.

في مقابل ذلك تنفي مصادر سياسية مطلعة الربط بين كلام الأسد ومسار عمل لجنة التحقيق الدولية في لبنان. وقالت ان الموقف الرسمي السوري, يمارس دوماً سياسة حافة الهاوية التي لم تعد مجدية أمام الضغوط الدولية التي تتعرض لها للاستجابة لميليس. ولفتت ان دمشق ادركت أخيراً ان ليس أمامها سوى تلبية الطلبات الموجهة اليها من قبل لجنة التحقيق الدولية خصوصاً ان الرفض والمماطلة, لم يحققا سوى مزيد من إثارة الشبهة حول علاقة سورية بجريمة اغتيال الحريري.

وسط هذا المناخ الذي يكشف عن تراجع في الموقف السوري حيال الضغوط الدولية, تبدو دمشق أمام حالة من انعدام الخيارات السياسية, وهي في انتظار الطلبات الدولية، وأمام مرحلة قاسية وصلت الى حد أن الرئيس بشار الأسد بات أمام مهمة ملحة تتمثل في إحداث تحول من داخل النظام، قد تفرض عليه التضحية بأجنحة أمنية وعسكرية وربما من داخل العائلة.

الخيار أمام القيادة السورية، اما ان تحذو حذو النظام الليبي الذي استجاب للمتطلبات الدولية وانخرط في عملية سياسية منسجمة مع السياسة الأميركية، أو أن تكون عرضة لاستمرار الضغوط التي تستعيد تجربة النظام العراقي مع المجتمع الدولي وأدت الى سقوطه نهاية الأمر.

لقد وصلت الأمور الى هذا الحد من الوضوح، فمن الثابت ان منطق المقايضة بات مرفوضاً لحسابات أميركية استراتيجية, فلم يعد في عرف الأميركيين أو الفرنسيين أن يقبلوا بخيار التدخل السوري مجدداً في الشأن اللبناني أو العراقي أو الفلسطيني، سورية معنية بسورية فقط. والحقيقة الإقليمية التي تترسخ منذ احتلال العراق، أن الأدوار الاقليمية التي كانت قائمة في السابق قد انقضى عهدها, وباتت الولايات المتحدة تباشر مهماتها من دون ان تعطي توكيلات لأحد، حتى إسرائيل فقدت الكثير من حرية التحرك والفعل في محيطها الإقليمي.

وفي خضم التداعيات على مستوى عمل لجنة التحقيق الدولية، سألت مصادر نيابية فاعلة، عن مغزى مغادرة رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط لبنان، ورئيس كتلة "المستقبل" النيابية سعد الحريري وغيرهما من الشخصيات المعارضة؟ ورأت ان هذه الخطوة ليست موفقة ولا يجب ان تطول لأن الخروج من لبنان في هذه المرحلة الدقيقة تحت حجج أمنية ليس مقنعاً وينطوي على هروب من المسؤولية.

وفيما أبدت شكوكاً في المبررات المعلنة لمغادرة سياسيي لبنان الى باريس قالت المصادر, انها تراقب ما يمكن أن يقوم به ميليس في الأيام القليلة المقبلة, في مقابل تأكيد النائب الحريري أن أسماء جديدة قد يتم توقيفها، وكلام جنبلاط الى ان رؤوساً كبيرة سوف تسقط في لبنان والخارج.

"الاشتباه" بالنائب السابق قنديل يحمل دلالة ان "الاشتباه" لا يقتصر على ذوي الصفة العسكرية أو الأمنية، ويطرح تساؤلات حول إمكان توقيف شخصيات سياسية وحزبية معروفة بعلاقاتها الوثيقة سياسياً وأمنياً بدمشق. فلقد أثارت مسألة احتجاز قنديل، توقع أن نسمع اليوم أو غداً طلب توقيف نواب حاليين وسابقين.

في كل الأحوال اللبنانيون في غالبيتهم يثقون بلجنة التحقيق الدولية حتى الآن، لأنهم ينتظرون أن تقدم لهم الحقيقة الكاملة، أي الحقيقة الجنائية وليس السياسية فحسب. في وقت تبدو نتائج التحقيق ستلقي بتبعاتها السياسية أولاً وربما الجنائية نحو دمشق, وما يتوفر لدى ميليس من معلومات, وما كشفته التحقيقات المعلنة حتى الآن لا يسمحان باتهامات صريحة, لكن ذلك لا يلغي حقيقة سياسية باتت شديدة الوضوح ان سورية باتت أكثر من أي وقت مضى تحت المجهر الدولي وأدواته الجراحية.

مصادر
صدى البلد (لبنان)