لا شك أن الدين كان يلعب دوراً سياسياً بارزاً وأساسياً في التشكيلات الإقطاعية ما قبل الرأسمالية ، في ظل غياب الدولة القانونية القادرة الفعالة ، وفي مواجهة الدولة الإمبراطورية العسكرية القائمة على العنف المحض ، وفي ظل حاجة المجتمع الماسة لقوى الضبط والردع الداخلي ..وبالتالي لا بد من استعمال سلطة الدين كسلطة قانونية اجتماعية مباشرة تحرس وحدة المجتمع وتضامنه ، ومن هنا كان كل تشكيك في الدين وكل ضعف في قدرته على الإقناع ، وكل تمرد على سلطته تحت دعوى الحرية ، كان يعني المزيد من انفراط اللحمة الاجتماعية والمزيد من الانهيار نحو الوحشية في مستوى الجماعة ، و يعني ازدياد طابع الدولة الاستبدادي في مستوى السياسة ، التي إذا تخلت عن قيم الدين توحشت أكثر فأكثر ، .. وبالتالي كان من المبرر إلى حد ما اعتبار كل هرطقة وكل ارتداد بمثابة عدوان مادي ومعنوي مباشر على الجماعة , التي تشعر بالتهديد الخطير في مستوى مصالحها وأمنها ونظامها القائمين بشكل أساسي على القناعة والخوف من الله ، واحترام التقاليد ، تحت رعاية سلطة الدين المباشرة على الناس والمندمجة مع سلطة العرف ، والتي تمتلك جهازا تنفيذيا أهلياً يتحرك بالعرف والعادات ، قد يتعاون أحياناً مع جهاز السلطة السياسية الاقطاعية الملكية الدينية الممتزجة معاً .

ولم يكن من المنطقي أو من المفيد فصل سلطة الشيخ العشائري ( الإقطاعي ) عن الشيخ الديني ، فكل منهما يكمل الثاني ، وكلاهما بعيدان ومتمايزان عن سلطة السلطان العسكرية الخراجية الخارجية المتسلطة بالقوة على الوحدات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية . في ذلك الوقت السلطة الفعلية التي تحكم سلوك البشر داخل وحداتهم هي سلطة الدين والعرف ، ولم يكن الانتماء للمجتمع يمر عبر الانتماء للدولة ، التي لم تكن إلا قوة قهر خارجية تختص في فرض النظام العام والطاعة على المقاطعات والقرى والأحياء , ففي المرحلة الإقطاعية كان الدين يلعب دوراً سياسياً قانونياً تنفيذياً هاماًً داخل الإقطاعية وكان نفوذ رجال الدين السياسي يعطي الحكم قدراً من القيم والأخلاق تجعله مقبولاً ، وتلطف قسوته ووحشيته ، أما خارج الإقطاعيات ، أو خارج التركيب الأهلي البطريركي ، فتسود سلطة الدولة ( السلطنة ) التي يجسدها الملك أو الوالي بجيشه الذي يجبر المقاطعات على دفع الخراج ، وقد كان مرتبطاً بالكنيسة ، أو الخلافة أيضاً ، وله مرجعية دينية تحاول التوفيق بين مصالحه السلطانية الخاصة ومصالح العامة .

أما في المجتمع الرأسمالي فقد تحطمت الحدود الإقطاعية، وتفكك المجتمع الأهلي ، وانهارت سلطة العرف والدين , وتعاظمت قوة الدولة والملك ، وصارت سلطتهم تتحكم بشكل حاسم في سلوك ليس الإقطاعيات بل الأفراد أنفسهم ، وبشكل مباشر وفردي ، فتراقب الأفراد وتحاسبهم بشكل شخصي ودائم ، من دون المرور عبر سلطة الدين والعرف والهيئات الأهلية الأخرى .. لذلك تغير دور الدين ، بسبب تغير دور الدولة وقدرتها ، ودور الجيش ( القوى المسلحة عموماً ) ايضاً ، وصار هناك جهاز شرطة كبير يراقب ويحاسب ويأمر وينهي ويتدخل في كل لحظة ، وكل مكان ، لذلك تقلصت الحاجة لسلطة الدين السياسية والقانونية .. لكن هذا لا يعني أبداً أن حاجة البشر للقيم والمثل والأخلاق والضوابط والمعايير ( الأديان ) قد انتهت , بل يعني فقط تغير دور هذه الأديان في آلية إنتاج السياسة ، من التعبير المباشر والتجسيد الفوري بسلطة يمارسها رجال الدين ، إلى سلطة معنوية تحكم مجموع البشر وتجعلهم يختارون القانون الذي يعبر عن قناعاتهم ويقينهم , أي الدين ولكن بشكل غير مباشر ، فيمارس الدين سلطته عبر ارادة الناس ويمر عبر صندوق الاقتراع ، ومن هنا تنتفي الحاجة لدور رجال الدين السياسي ويصبح من الممكن بل من الضروري فصل و تحييد رجال الدين عن السياسة ، وتجريدهم من كل سلطة سياسة يمارسونها على الناس ، مع الاحتفاظ بقيمتهم المعرفية ، ودورهم الإرشادي ، والاعتراف بأثرهم على تكوين الضمائر . لتصبح السلطة السياسية خاضعة فقط للسلطة التشريعية المنتخبة من الشعب عبر آليات التمثيل الصحيحة .. وهذا هو جوهر العلمانية . التي تهيئ لأول مرة فرصة حرية الاعتقاد الكاملة .
أصبحت سلطة الدين هي الخضوع لدستور ثقافي أخلاقي مزروع في مستوى القيم والضمير والتربية ، بينما سلطة الدولة هي قوة إخضاع قانوني خارجي ، والأمة الدينية هي التي ترتكز في أساس اجتماعها على سلطة الدين بشكل رئيسي ، بينما الدولة - الأمة هي التي ترتكز في أساس اجتماعها على سلطة الدولة أولاً وأساساً ، وهذا لا يعني عدم وجود دولة في الأمة الدينية ، أو عدم وجود دين في الدولة- الأمة .

إن هدف الدين هو بناء الجماعة الأهلية أي بناء الإنسان الاجتماعي ، فيما وراء الدول وقبلها وأمامها وبعدها . ولا دولة بدون جماعة ، ولا سياسة بدون دين ، أي بدون مستودع وخزان رئيسي للقيم الإنسانية والمثل والفضائل الأخلاقية ، ولا يجوز تحطيم فعالية وقيمة الثروة الروحية المجودة في الدين ، والتي ليس لها مصدر آخر في الممارسة السياسية والقانونية غيره ، لا أقصد بالدين دين معين يخص طائفتي كما يشيع ، بل الدين الذي هو مركز وخلاصة ونواة الثقافة الاجتماعية وموقفها القيمي ، مهما كان نظام الترميز الأسطوري الذي تعتمده ، والذي هو محط إجماعها وتقديسها الفعلي ، الدين القادر فعلاً على تشكيل الضمائر ، وعلى الربط بين المعارف والقيم وبين السلوك العملي ، لأن وظيفة الدين وطقوسه وما يرتبط بها هي تشكيل وتفعيل ما يسمى بديناميك عالم الروح ، عالم المعاني والقيم الضرورية لتغذية وجود الفرد والمجتمع والتي تميز الإنسان عن الوحش ، وتحافظ على عالمه المعنوي الروحي إلى جانب عالمه المادي .

وهدف الدولة هو حراسة النظام الاجتماعي القائم بواسطة الأداة السياسية التي تتكون من قوى الضبط والمراقبة والمعاقبة ، والإخضاع والإجبار ، التي تطبق القانون نظرياً ( حيث أحيانا يكون تعسفياً أو يعكس إرادة فرد واحد ) و الذي يجب أن تضعه سلطة تشريعية تعكس مشيئة ومصالح فئات أو طبقات مختلفة من داخل الجماعة أو خارجها ، والتي يحتوي التاريخ السياسي على سجل صراعها المرير على ملكية و تدجين وتطويع وإخضاع الدولة ، لرغبات وحاجات القوى المنتصرة في المجتمع والتي تحاول إخضاعه لهيمنتها ، والتي اكتشفت بعد صراعها المرير فيما بينها أن نظام الديمقراطية هو الشكل الوحيد القادر على إنهاء حالة الصراع والعنف السياسي ، واستبداله بالتداول السلمي الديمقراطي .
هذه الدولة كانت قد تطورت في حجمها وتشكليها ومؤسساتها وفعاليتها بشكل كبير مع صعود الرأسمالية ، فتضخمت بشدة وصارت قادرة على مراقبة وتوجيه كل سلوك لكل مواطن فيها ، مما جعل مسألة تدجين سلطة الدولة مسألة جوهرية وأساسية في المجتمعات الحديثة ، وهنا جوهر القضية ، إنه تراجع دور وقيمة الدين في التنظيم والرقابة الاجتماعية الرسمية ( السياسة ) ، لصالح تطور دور الدولة ، ثم بروز مسألة السيادة على هذه الدولة ، التي لم تكن فيما مضى ذات أهمية كبرى بالنظر إلى كون الدولة قوة ردع مادية عسكرية على هامش أوفي خدمة السلطة الدينية المدنية الروحية .. فبعد تنامي قوة الدولة وأثرها وفعاليتها التي نلمسها جيداً في مجموعة الدول الشمولية التي قامت على يد النازية والشيوعية ، والتي تفتش على الضمائر والنوايا ، وتسيطر على سلوك وعقل وعواطف الإنسان وتحوله إلى مجرد آلة ميكانيكية يتحرك بأمر ويأكل بأمر ويعمل بأمر ويصفق بأمر ويرقص بأمر ، ثم يبكي بأمر ، أي تحوله إلى كائن هزيل مسلوب لا حول ولا قوة له ، فلو وقعت هذه الدولة تحت رحمة سلطة مستبدة تستمد مشروعيتها من ذاتها وتجدد لنفسها ، وليس هناك من يحاسبها ، لوصلنا إلى نظام رهيب من القمع والاستعباد يفوق النظام العبودي ، وكل ذلك قد يحدث باسم الدين ومن أجله .. وهنا المشكلة .. لذلك أصبحت مسألة السيادة على هذه الدولة هي المسألة الأهم التي تقض مضجع الشعوب والطبقات والشرائح والأفراد الذين اشتد تنافسهم على ملكية هذه الدولة ، وعلى تأثيرهم فيها وعلى توجيهها .

ومن هنا بروز مسألة الحريات والديمقراطية مع العلمانية معاً ، كعوامل مشتركة وحاسمة في تدجين الدولة وأنسنتها وجعلها أداة خدمة للمجتمع وليس ضده . مع ملاحظة أن طغيان الدولة قد ترافق مع تزايد انهيار فعالية الأثر الديني واضمحلاله ( أي سلطة الضمير والقيم والوازع ) , الذي تسبب فيه تطور المعارف والعلوم والفلسفات الحديثة ، التي سحبت البساط المعرفي من تحت المقولات الدينية التقليدية ، ففقدت المنظومات المعرفية الدينية بسرعة مفعولها المقنع وقوتها الروحية . وتراجع في النتيجة دور الدين من الساحة الفكرية والإيمانية الفعالة والمؤثرة ، وتراجعت بنفس الوقت حاجة المجتمع لذلك التأثير بوجود الدولة القوية القادرة ، وبرزت مسألة السيطرة على تلك الدولة ، كمسألة أساسية في الحياة السياسية المعاصرة ، وتضاءل دور الدين في الحياة العصرية عامة ، لكن إلى حين ، حيث ستكتشف البشرية في طريقها للمزيد من الارتقاء حاجتها للقيم والضوابط الداخلية ، وتعاود النظر في مخزونها الديني لتستمد منه ما تحتاج إليه ، لكن العولمة جعلت من مثل هذا الارتداد بوابة لصراع ديني ومذهبي إذا لم تتطور عملية مصالحة فلسفية سريعة, تجمع بين كل الديانات وتوفق بينها على أساس الاحترام ، إي اذا لم تقترن العولمة الاقتصادية بعولمة ثقافية وسياسية .

أصبحت الدولة هي الأساس في قيام المجتمعات الحديثة , التي صارت تعتمد على البعد السياسي أكثر كثيراً من اعتمادها على البعد الثقافي ، في عملية ضبط سلوك أفرادها ومؤسساتها ، ونشأ ما نعرفه اليوم بالدولة - الأمة ، وصارت الدولة مجموعة كبيرة من المؤسسات التي تدير وتتحكم بالكثير جداً من فعاليات المجتمع ونشاطاته ، ولم تعد مجرد قوة قمعية خارجية بالنسبة للمجتمع (كانت الديانات تهملها ولا تعيرها اهتماماً ) بل صارت الدولة أداة الحركات الشمولية التي تهدف إلى فرض تسلطها الصارم على المجتمع ، عبر استخدام مؤسسات الدولة وقدرتها على احتواء النشاطات الاجتماعية المختلفة ، ومن بينها حركات دينية جديدة تحاول التأقلم مع الواقع الجديد وتطوير الديانات بما يتناسب معه ، أي مع وجود دولة جبارة ، أقصد بالضبط الأصولية ، التي تتبنى نظرية الدولة الشمولية الحديثة الهادفة لخدمة الدين نظرياً ، فهي تمزج باستخدامها مصطلح الإمام بين الدين كمستوى ضميري وروحي ، والدولة كمستوى قمعي خارجي ، أي بين سلطة الشيخ الفقيه الروحية وسلطة الحاكم المادية العسكرية . لذلك صارت مسالة الحريات مسألة جوهرية في النظم السياسية المعاصر ، بالنظر إلى مسعى السلطات المطلقة المستمر نحو الطغيان على المجتمعات والأفراد ، وصارت عملية ضمان هذه الحريات جزءا لا يتجزأ من واجب الحفاظ على دورها الاجتماعي في خدمة التشكيلة وليس ضدها . وصار الانتماء للمجتمع المدني وتعزيز مؤسساته هو الضامن لكبح جماح الدولة وطغيانها ، وهو الشكل الاجتماعي الذي يستطسع التأثير المباشر على سلوك مؤسسات الدولة ومواجهتها ، في حين يصبح الانتماء للمجتمع الأهلي بشكل متزايد أقل قيمة وفعالية ويتراجع باستمرار . فالمجتمع المدني هو الحضن الذي تنشأ فيه وعليه الديمقراطية ، وغيابه أو تدميره هو هدف الديكتاتوريات و شرط إعادة إنتاجها لذاتها .

فالذي حدث ببساطة هو تغير الظروف فما كان منطقياً وصحيحاً وأخلاقياً ، صار غير ذلك ، هل نطبق ما هو الآن غير صحيح وغير مفيد وغير أخلاقي ، هل نقبل بعبودية لسلطات مستبدة فاسدة مدمرة تحت ذريعة العبودية لله ، أم نتحرر من الطغيان والعبودية والطواغيت بكل أشكالها ونعتبر ذلك هو جوهر الدعوة الدينية . هل نتبع الشكل القديم بغض النظر عن الهدف والغاية ، أم نحتفظ بالهدف والغاية ونطور الشكل بما يتناسب مع الظرف .. المسألة ليست بحاجة للتفكير ، لكنها تنحصر بسؤال : ما هو الشكل الذي يجعلنا أحرار دون أن تكون تلك الحرية تمرداً على الإيمان والدين وعصياناً لله .. هل تطور العقل من سنة الكون وهل هذا مخالف لطبيعة الأشياء ، وهل تطور العقل سوف يؤثر على تطور فهمنا للدين؟ وهل في ذلك ضير ، وهل صلاح النص لكل زمان ومكان سببه تطور العقل بتطور الظروف ، أم ثبات الظروف والنص والعقل معاً .. ، ببساطة هل يمكن تغيير عقلية فهم الدين ، لكي نتمكن من انجاز هذه القفزة والمصالحة بين كل من معتقدنا وإيماننا بالله والرسول والكتاب ، وبين عيشنا في ظروف متغيرة كثيراً عما كانت عليه أيام السلف ؟ .. وبالتالي لا تعود مسألة السلف الصالح تعني أن نتبع أدوات عيشهم ، بل قيمهم وطرائقهم في مواجهة مشاكلهم .. هنا يظهر فارق كبير بين إسلام متحجر يتمسك بالشكل حتى لو دمر المضمون ، وإسلام منفتح متطور يحافظ على الحق والخير ضمن منهج أخلاقي قيمي معرفي مرن ومتسامح مع الشكل لصالح الغرض والغاية والوظيفة . فهل يبيح لنا النص القرآني ذلك .. وأي عقل نستخدم وأي قراءة ستنتج عن هذا العقل ؟؟؟؟ لنحاول :

مصادر
مرآة سوريا (سوريا)