<<التحقيقات في بيروت، والخلاصات في دمشق>>، وأبعد من العاصمتين، هناك الثلاثي الدولي المتمترس في نيويورك: وكيل الأمين العام للشؤون السياسية ابراهيم الجمبري، ومندوب الولايات المتحدة لدى مجلس الامن جون بولتون، والممثل الشخصي للامين العام المكلف بالملف اللبناني تيري رود لارسن، وقد تمكّن هذا الثلاثي من تحويل مجلس الامن الى <<غرفة عمليات>>، متأهبة للتعاطي اولا بأول مع البرقيات والفاكسات الواردة من غرفة عمليات المحقق الدولي ديتليف ميليس في المونتيفردي.
لا يمكن إغفال الحضور الفرنسي، و<<الدور الذي يضطلع به بنشاط ومثابرة>> المستشار الدبلوماسي للرئيس جاك شيراك، والممسك بملف لبنان، غوردون مونتانيي، إلاّ أن هذا الدور والحضور يركّزان بشكل عام، ومن باب أولى على كيفيّة مواجهة التداعيات التي قد تسفر عنها التحقيقات بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، <<ذلك أن فرنسا، بقدر ما يهمّها معرفة الحقيقة، يهمّها أيضا الحرص على مسيرة التوازن، والاستقرار في لبنان>>.

هذا الحرص عكس جانبا منه الرئيس شيراك في خطابه أمام السلك الدبلوماسي الفرنسي في الخارج عندما دعا سوريا <<بإلحاح، وصدق الى السرعة في ركوب القطار، واغتنام المناسبة التي قد لا تتكرر، للنظر الى الواقع اللبناني نظرة مختلفة عن الماضي، والمبادرة الى بناء علاقات ثقة قائمة على الاحترام المتبادل، في التنسيق، والتعاون، والتعاطي مع الهموم والاهتمامات المشتركة، لتحقيق المصالح والاهداف المشتركة>>. لقد أراد الرئيس شيراك وحتى هذه اللحظة أن يتعاطى مع سوريا من موقع مختلف ومغاير للأسلوب، والتوجه الذي تصرّ الولايات المتحدة على اعتماده، والقائم على الضغط، والإملاء، والتهديد، والوعيد باتخاذ التدابير والاجراءات الرادعة ضدّها في حال الاستمرار بالممانعة، وعدم الامتثال.

هناك تمايز واضح في موقفي كل من فرنسا، وأميركا تجاه سوريا، وكيفيّة التعاطي معها، والأصح ان لدى الفرنسيين بعضا من الصبر وطول الأناة لم يعد موجودا لدى الاميركييّن الذين يؤكدون أن هامش المناورة قد انتهى، وآن اوان الاستحقاقات الكبرى التي على دمشق مواجهتها، و<<تسديد فواتيرها المستحقة في المصرف اللبناني، بعدما تعذّر تسديدها وفق المعايير الاميركيّة ، الدوليّة في العراق؟!>>.

وتأكيدا على هذا النوع من المرونة، كانت فرنسا الى جانب الصين، وروسيا، ودول أخرى في مجلس الامن وراء عدم ذكر سوريا بالاسم في البيان الاخير الذي صدر عن المجلس إثر مناقشته التقرير الاجرائي لديتليف ميليس، والذي أشار (البيان) صراحة الى <<جهات غير متعاونة>>، في حين تولىّ كلّ من وكيل الامين العام للشؤون السياسيّة ابراهيم الجمبري، ونائبة المندوب الاميركي لدى مجلس الامن آن باترسون، عملية التوضيح في مؤتمرهما الصحفي، والتأكيد على ذكر سوريا.

ويبدو، انطلاقا من معلومات أفادت بها جهات متابعة، ان هذه المرونة جاءت مشروطة، بمعنى انها لا يمكن ان تستمر الى ما لا نهاية، وهي مقيّدة، سلفا، بشرطين أساسييّن: السرعة في التجاوب مع متطلبات التحقيق بجريمة الاغتيال. والسرعة في التجاوب مع المناخ الدولي المحيط بلبنان، والذي يدفع باتجاه قيام علاقات متوازنة، منطلقة من موقع الاحترام المتبادل بين البلدين.

هذان الشرطان تلازما مع محورية الحركة الدبلوماسيّة التي شهدتها كولسات الامم المتحدة، ومجلس الامن منذ ان قدّم ابراهيم الجمبري << بيان الاحاطة>>، او ما يعرف بالتقرير الاجرائي لميليس، الى أعضاء المجلس.

وفي التفاصيل ان القاضي الدولي ترددّ كثيرا قبل ان يقرر التوجه الى جنيف لمقابلة دبلوماسيين من الخارجية السوريّة نقلا اليه الاجوبة على الاسئلة التي كان قد بعث بها الى دمشق، والهادفة الى تبديد الغموض والالتباس الذي اعترى التحقيق في بعض مفاصله المهمة. وكان هو أمام خيارين <<أحلاهما مر؟!>>، فإما أن يتشبث بموقفه القاضي بمثول اسماء سوريّة طلب الاستماع الى إفاداتها حول مدى علاقتها بالجريمة المروعة، او حول ما تملكه من معلومات على هذا الصعيد بحكم المسؤوليات الامنية والسياسية التي كانت تضطلع بها في لبنان أباّن عهد الرعاية السوريّة، او إبلاغ مجلس الامن رسميّا بعدم التجاوب كي يتولى هو تحديد الخطوة التي ستلي، إلاّ ان باريس، وتحديدا قصر الاليزيه، قد تدخّل مباشرة مع الولايات المتحدة، ومع رئاسة مجلس الامن، ومع الامانة العامة للأمم المتحدة لإقناع ميليس بالتجاوب مع اجتماع جنيف، والحضور، والتباحث مع السوريين حول اسلوب التعاون.

ويقال هنا ان النتائج جاءت مخيبة، وأن الوقائع قد بدّدت التوقعات، بمعنى ان رئيس فريق التحقيق الدولي قد خرج من ذلك الاجتماع محبطا مرّتين، مرّة لأن الاجوبة الخطيّة التي تلقاها، لم تكن ذات قيمة إخباريّة، او معنويّة، بل كانت عامة، وأقل من عادية. ثمّ لأن من حضر من الجانب السوري لم يكن مكلّفا ببحث أي موضوع، او آليّة واضحة ومحددة حول التعاون المفترض مع اللجنة، عندها لم يكن أمام ميليس سوى إبلاغ مجلس الامن بحقيقة ما جرى.. وكانت ردّة الفعل عند الاخير واضحة من خلال التصريحات التي أعقبت اجتماع المجلس، ووجهت اصابع الاتهام الى دمشق بعدم التجاوب؟!.

حتى خلال الجلسة المغلقة التي عقدها المجلس، كانت المعلومات المدققة حول ما توصل إليه ميليس، وفريق عمله ملك دوائر ضيقة جدّا، و<<لم تكن هذه مشاعا أمام جميع الاعضاء الدائمين وغير الدائمين>>، إما لأن هناك رغبة من الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، بحصر الموضوع في أضيق نطاق، بانتظار اليوم الذي يصبح ممكنا فيه جلاء كامل وقائع وتفاصيل الحقيقة، وإما لوجود رغبة في هذا التقنين، والتضييق، حول المعلومات كي لا <<يدخل طابور خامس>> على الخط، وتتولى بعض الدول، او الجهات، تسريب معلومات الى جهات أخرى قادرة على تضليل التحقيق، او تعديل وجهة سيره في اتجاهات ومنعطفات أخرى مغايرة.

بالمقابل ظهر توجّه داخل المجلس، بعد مناقشات واتصالات، يقضي <<بعمليّة توزيع أدوار متقنة>>، بحيث يصدر عن المجلس بيان معتدل نسبيّا، على ان يتولى المسؤول الاممي (الجمبري)، وكل من المندوبين الاميركي والفرنسي، الادلاء بمواقف وتصريحات تشير الى سوريا كجهة غير متعاونة مع التحقيق الدولي، ومع مقتضيات القرار 1595. كما تمّ التوافق على نقاط ثلاث: دعوة ميليس الى الاسراع في إنجاز مهمته، والانتقال من جمع الأدلة الى استخلاص الحقائق. وممارسة المزيد من الضغوط المعنوية على سوريا لحملها على التجاوب مع لجنة التحقيق. وإبقاء مجلس الامن في حالة انعقاد شبه دائمة، كلما دعت الحاجة للبقاء على إطلاع فوري، ودائم على آخر المستجدات، ومواكبة لجنة التحقيق في مهامها.

وما كاد ينفرط عقد المجلس، حتى بدأت الخطوات التنفيذيّة، وكانت أولى التباشير تلقّي السفير البريطاني في بيروت جيمس واط، نبأ عاجلا من وزارة الخارجية البريطانيّة (كون بلاده رئيسة الاتحاد الاوروبي)، يتمنّى عليه التحرّك فورا، وإبلاغ رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بأن المنسّق الاعلى للسياسة الخارجية والامن المشترك خافيير سولانا قد ألغى زيارته التي كانت مقررة الى بيروت بعد ظهر يوم الاثنين الماضي <<لاسباب قاهرة>>، وهذه الاسباب كان يدركها الرئيس السنيورة جيدا، من القاضي ميليس الذي كانت له حركة اتصالات يومي الاحد والاثنين بقيت بعيدة عن الاضواء، وتردد انه زار أيضا الرئيس إميل لحود، ووضعه في <<الاجواء العامة>> دون الدخول في تفاصيل الخطوات الاجرائية التي سيقدم عليها.

وجاءت حركة الاستجوابات التي بدأت صباح الثلاثاء، لتحرّك لجنة التحقيق باتجاهات ثلاثة: الضغط المباشر على دمشق للامتثال، وبالتالي لا حقيقة، ولا خلاصات نهائيّة، إلا بعد ان يبلغ ميليس المنظمة الدوليّة بأنه استكمل مهمته مع الجانب السوري، وفي هذه الحال تقول مصادر متابعة ان رئيس فريق التحقيق الدولي أبدى تحفظا على العودة الى جنيف كمركز للقاء مع السوريين، ووضع معايير خاصة من وحي القرار 1595، طالب الامتثال لها لاستكمال مهمته. ثم الانتقال من مرحلة جمع الأدلة الى مرحلة تصويب المعلومات، و<<غربلتها>>. وأخيرا، وليس آخرا، وضع الحياة السياسيّة المحليّة تحت الرعاية الدوليّة مباشرة، وعلى قاعدة ان الساحة مهيأة دائما لردّة الفعل، وأن المرحلة الانتقالية التي بدأت بعد انتهاء عهد الرعاية السورية للبنان، لم تكن <<لبنانيّة>>، بل مسيّرة ب<<ريموت كونترول>> دولي، استنادا الى أدلة كثيرة منها ان الانتخابات النيابية قد تمتّ، رغم التحفّظ على قانون الانتخاب، بقرار دولي، وتحت إشراف دولي؟، ثم ألم تشكل الحكومة، بعد طول مدّ وجزر، فورا، وبقرار دولي؟، وأخيرا ألا تكفي لبنان ثلاثة قرارات دوليّة شكلت حتى الآن المظلّة التي تظلل هذه المرحلة ( الانتقاليّة)، والمرحلة التأسيسيّة المقبلة؟!... أما سائر التفاصيل فستأتي تباعا؟!...

مصادر
السفير (لبنان)