اليوم أول أيلول هو ذكرى المئتي يوم على استشهاد الرئيس رفيق الحريري. غداً 2 أيلول <<يحتفل>> لبنانيون بالذكرى السنوية الاولى لصدور القرار 1559. بعد غد، 3 ايلول، <<يحتفل>> لبنانيون أقل بالذكرى السنوية الأولى للتمديد للرئيس إميل لحود. تمر هذه الايام والأنظار مشدودة الى عمل لجنة التحقيق الدولية التي شكلها القرار 1595 والتي أوحت، بعد التقرير الإجرائي، انها دخلت في مرحلة حاسمة من عملها.
عندما صدر القرار 1559 ضد التمديد ومع الانتخابات الحرة، وضد استمرار وجود القوات السورية في لبنان، وضد سلاح الميليشيات جرى خرقه في اليوم التالي ومنذ ذلك الوقت والمواجهة مستمرة.

إنها مواجهة بين سياستين. تريد الاولى الضغط لتنفيذ القرار بكامل بنوده (أكد الرئيس جاك شيراك ذلك قبل أيام) معتبرة أنه عنوان اساسي في استهدافاتها المحلية والإقليمية السابقة عليه. وتريد الثانية <<التملص>> منه بمسمّيات مختلفة قد
يكون بينها الاعلان اللفظي عن <<احترام قرارات الشرعية الدولية>>.

إن فترة سنة تسمح بالقول ان القوى الضاغطة نجحت حتى الآن في إسناد برنامجها الى تذمرات لبنانية مشروعة، وإلى احتجاجات في محلها، وإلى استفادة من التخبّط في المعسكر الآخر، وإلى قدرة مرموقة على تقديم المقاصد الفعلية في هيئة مطالب شعبية لبنانية مقبولة لدى أكثرية راجحة. أما القوى الرافضة للقرار فبدا أنها لا تفعل سوى اللجوء إلى تدابير إدارية، فوقية، معزولة، غير شعبية. وإذا استثنينا <<حزب الله>> فإن هذه القوى تمارس السياسة محكومة بتربيتها، وثقافتها، وقصر نظرها، وجنوحها القمعي. ولذا فإنها تبدو عاجزة وغير مقنعة عند رد التهمة الموجهة إليها بأن الاغتيال والتفجير من أدواتها وعدة شغلها.

إن الناظر الى احداث العام الاخير من داخل المعطى اللبناني حصرا لا يسعه الا الانحياز الى المعسكر الرافض للاجهزة، والاستخبارات، وخرق الدستور، وتعطيل النهوض الاقتصادي والعنف. لا مجال لموقف آخر ما دام البديل <<المقترح>> عما تقدم هو السيادة، والحرية، والاستقلال، والديموقراطية، والتوزيع العادل للسلطات، واحترام نتائج الانتخابات، وإعادة النظر بالشكل السابق البائس للعلاقات اللبنانية السورية. والاتصال بالمزاج الراهن للعالم الغربي المتمدن..
المشهد هو حلبة يتواجه فوقها ملاكمان يمثل أحدهما الخير ويمارسه منضبطا بقواعد اللعبة، ويمثل ثانيهما الشر ويمارسه خارقا القواعد كلها.

إلا ان الناظر الى الأحداث عينها من خلال المعطى الإقليمي والدولي (واللبناني ضمنا) لا يسعه إلا أن يرى سياسات دول، واستراتيجيات، ومصالح، ولا يمكنه إغفال الاحتلال في العراق وفلسطين، ونوايا إعادة هيكلة المنطقة كلها، وجذرية المشروع المولود من اقتران الغزوة الكولونيالية بالاندفاعة التوسعية الصهيونية. ويقود ذلك، طبعا، إلى تعريف آخر للمواجهة يرى إليها بصفتها صراعا على الموقع الاقليمي للبنان، وصلاته بأزمات المنطقة، وهويته. ويقوى الميل، في استطراد ذلك، الى اعتبار الوجه الداخلي ثانويا ولا يقدم قاعدة صلبة كافية لتحديد موقف ونهج.

تطحن هذه الثنائية كل محاولة لإنتاج وعي معقد، أي، عمليا، وعي يسعى الى التطابق مع واقع معقد. لا تطحن الوعي فقط وإنما، ايضا، كل من يحاول الدفاع عنه آملا في إيجاد صلة وصل بين <<الوطني الجيد>> و<<القومي الجيد>>.

لقد مرت ايام هائلة الأثر على لبنان خلال العام الماضي. الا انها لم تفعل سوى تعميق هذه الثنائية وتعديل موازين القوى بين طرفيها. بقيت قراءتا التطورات بمثابة خطين متوازيين يقدم كل واحد منهما مدخلا للتفسير ولإدراج الوقائع في سياق معين. ولكن لا بد من ملاحظة ان الوجهة الاولى صعدت اكثر فأكثر الى موقع الأرجحية والهيمنة.
إن تطورات الايام الاخيرة تصب في خدمة حسم ثنائيتين.
أما الاولى فهي ازدواجية السلطة والممتدة، على الاقل، من العام 98. لقد بات الاستمرار فيها صعبا بعدما حوصر الرئيس إميل لحود، وجرى الانقضاض على <<المكتب السياسي>> لحزبه الأمني.

أما الثانية فهي ازدواجية الروايات لما يحصل في لبنان. ثمة رواية متراجعة وفاقدة، أكثر فأكثر، لقدرتها على الإقناع. يستدل على ذلك من القابلية الشعبية الواسعة لتصديق كل إشاعة عن <<حقائق>> التحقيق الدولي بمجرد أنها تصب في وجهة محددة وحتى لو لم تعش سوى ساعات قليلة (نادرا ما كان موظف دولي متخصصا، مثل نجيب فريجي في انتقائية نفي ما يريد او السكوت على ما يريد).

لا بأس من الدخول في حقل الألغام.

نعم إن هناك من يريد معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ومن الطبيعي ان يكون هذا البعض مستعدا لتحمل تبعات ذلك ونتائجه حتى لو قاده الامر الى غير ما يتمناه للبنان وللعلاقات اللبنانية السورية.

ولكن يفترض بالمرء ان يكون ساذجا جدا حتى لا يعترف ان هناك، في لبنان، من يرفع شعار <<الحقيقة>> وليس في ذهنه سوى الرغبة العميقة بأن يتمكن، عبرها، من الإطلالة على القرار 1559 دافعا الى استكمال تنفيذه. ان هذه البيئة هي مصدر ضخ لمعطيات حاضرة بقوة في الحياة العامة وتكاد تصل الى حد <<الارهاب الفكري>>. نحن امام نوع جديد من <<الجهد التكفيري>> الذي يحاول تعطيل اي تعاط نقدي مع الاحداث سواء تناول هذا التعاطي واقعة اخبارية معينة أو غامر بالذهاب الى القول <<ان احداثا هائلة حصلت في لبنان ولكن الإطار الناظم للصراعات كلها يبقى، في التحليل الاخير، ذلك المتعلق بالقرار 1559 ومراميه>>.

يرى البعض أن لكل من 1559 و1595 حيزاً مستقلا بذاته. لكن هناك من يريد حسم هذه الثنائية أيضا رابطا الثاني بعجلة الأول.

مصادر
السفير (لبنان)