رصد ديبلوماسي لتعاون سوري فعلي غير كلامي

لم يخرج الاداء السوري في التعاون مع لجنة التحقيق الدولية المستقلة المكلفة التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري عن الاطار الذي توقعه عدد من رؤساء البعثات الديبلوماسية الاجنبية الذين، من موقع خبرتهم ومتابعتهم للشأن السوري، تنبأوا بان تحاول سوريا المماطلة قدر المستطاع وتوظيف عامل الوقت الى اقصاه. فهذا العامل كان اللعبة المفضلة لدى النظام السوري طوال عقود ولا يزال، رغم كل التغيرات التي حصلت، اقله في الاعوام الاخيرة. وسادت توقعات الا تستجيب سوريا لطلب ميليس مقابلة مسؤولين لديها حتى اللحظة الاخيرة، ومتى فعلت فانها لن تقدم شيئا. وهو في الواقع ما يقوله ديبلوماسيون انه حصل في اللقاء مع ميليس في جنيف بعدما تأكدوا ان الديبلوماسيين السوريين اللذين اوفدا الى لقائه لم يقدما أي شيء ذي جدوى. وثمة معلومات ان سوريا رغم الكلام الكثير على الرغبة في التعاون او "مواصلة التعاون"، كما قال الرئيس السوري في حديثه الصحافي الاخير، لم تفعل شيئا حتى الآن في انتظار فتح قنوات خلفية تؤمن لها حلولا ما لمعضلتها في هذا الاطار. وهي لو فتحت الباب امام لقاءات مع ميليس، فثمة شكوك كبيرة في ان تقدم اليه ما يريده من معلومات وان تفتح له الابواب للوصول الى المعلومات التي يبحث عنها بذريعة موجبات السيادة السورية التي تمنع عليها ذلك. وثمة من يقول ان ميليس ليس بعيدا من اسلوب التعاطي السوري وقد لفته اليه اكثر من طرف محلي وخارجي، وقد اثبتت التطورات على هذا الصعيد صحة من قدم هذه التوقعات حتى الآن.

المؤتمر الصحافي الذي عقده ميليس كان موضع تقدير كبير لدى غالبية البعثات الديبلوماسية لقوله الكثير وامتناعه عن قول الكثير ايضا. لكنه نجح في سد الثغر على شائعات رمى البعض من خلالها الى زعزعة الاستقرار في البلاد كتلك التي حاولت وضع "حزب الله" موضع شبهة في اغتيال الحريري، او تلك التي وضعت الرئيس اميل لحود ايضا في هذه الخانة رغم ان الاخير يواجه مشكلة لم يعد موقف ميليس كافيا للتخفيف منها. وقد شكل الوصول الى ادلة ادت الى الادعاء على قادة الاجهزة الامنية الى بدء التحضير النفسي للخلاصات النهائية لئلا يكون وقعها قويا على ما يخشى كثيرون، وتأتي في السياق الطبيعي لتطور الامور.

في هذا المؤتمر رد ميليس على سؤال عن احتمال بقاء سوريا على موقفها الرافض التعاون مع لجنة التحقيق الدولية حتى نهاية الفترة لتقديم تقريره قائلا "ماذا عساي ان افعل؟ لا شيء". فاظهر انه يتحلى بديبلوماسية كبيرة لا تشي بالخطوات المقبلة التي يمكن ان تترتب على ذلك لئلا يشتم ان في كلامه تهديدا مبطنا، رغم معرفة الجميع ان عدم تعاون سوريا سيذكر في تقرير ميليس بحيث يبني مجلس الامن موقفه عليه ورغبته في الحصول على صورة نهائية في شأن اغتيال الحريري. وهو الامر الذي حصل لدى عرض ميليس تقريره الاجرائي على مجلس الامن ثم لدى مناقشة خطوات توقيف القادة الامنيين السابقين الاربعة في لبنان.

وشكلت لامبالاة سوريا حيال اتهامها مرتين في مجلس الامن خلال اسبوع واحد بعدم التعاون مع ميليس في التحقيق سببا اضافيا للديبلوماسيين الاجانب للتأكد ان سوريا لم تتغير ولم تراجع الاخطاء في ادائها خلال العام الماضي على الاقل وانها ماضية في الاسلوب نفسه الذي اوصلها الى مجلس الامن في المرة الاولى في القرار 1559، حين كان استخفافها باحتمال صدور قرار عن مجلس الامن الدولي نتيجة التمديد للرئيس لحود بمثابة من اطلق النار على قدمه.

وعدم التعاون السوري سيترك مفاعيل خطيرة بالنسبة الى دمشق وفق ما يعتقد الديبلوماسيون. ولن تجد سوريا في المجتمع الدولي من يدافع عن عدم تعاونها او يجد مبررات له، وخصوصا انها ما فتئت تكرر انها المتضرر الاول من اغتيال الحريري ولا يفهم كيف لا تتقدم الجميع في تقديم المعلومات الضرورية لذلك ما دامت واثقة من براءتها. وهي لم تقنع مثلا في كلامها على التعاون او "مواصلة التعاون" المستمر منذ اكثر من عشرة ايام أي صحافي وجّه سؤالا بهذا المعنى الى ميليس في مؤتمره الصحافي بل تمحورت الاسئلة على عدم تعاون سوريا والاحتمالات التي يمكن ان يقود اليها، فتولى ميليس "الطمأنة" الى انه واثق ان سوريا ستتعاون. والحال لن تكون افضل على الصعيد الدولي الذي يترقب أي معلومات في هذا الصدد. وتجدر الاشارة في هذا الاطار الى ان القيادة السورية اصابت باليأس الكثير من الدول التي تمايزت في وقت من الاوقات عن الولايات المتحدة في شأن الموقف منها وتعاملت معها على انها تستحق الفرصة لتصحيح ما يجب تصحيحه، ولم تعد تجهد لموقف مختلف كثيرا عن موقفي الولايات المتحدة وفرنسا.

وتتحدث المعلومات الديبلوماسية عن موقف اميركي متصلب اكثر فاكثر من سوريا نتيجة الوضع في العراق، وقد يترجم باجراءات ما ضدها لن تقتصر على الولايات المتحدة وحدها. ورغم ان مشاركين في مؤتمر عقد في لندن اخيرا حول الوضع في سوريا شارك فيه خبراء دوليون واميركيون في الشرق الاوسط يعرفون سوريا عن كثب خلصوا بحسب بعض المشاركين الى ان لا تغيير في النظام السوري حاليا في موازاة توقعاتهم بعدم قابلية القيادة السورية للتغيير، فان تداعيات عدم التعاون مع لجنة التحقيق قد يفتح ابوابا مختلفة لا يمكن التكهن بها.

مصادر
النهار (لبنان)