بخلاف توقعات المتفائلين، الذين تنبأوا بحدوث مزيد من الانفراج السياسي والانفتاح الديموقراطي، على ضوء التوصيات والقرارات التي خرج بها المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، تشهد سورية عودة الى سياسة تشديد القبضة الأمنية، بهدف التضييق على الحراك السياسي والثقافي المستقل، الذي تميزت به الساحة السورية في السنوات التي تلت تولي الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم,فبعد اغلاق منتدى الاتاسي للحوار الديموقراطي في مايو الماضي، وسعت السلطات السورية دائرة المضايقات الأمنية لنشطاء هذا الحراك وكيل التهم لهم واعتقال البعض ومنع البعض الآخر منهم من مغادرة البلاد، وزادت من الخطوط الحمر امام وحول هذا الحراك بعد أن كانت الخطوط الحمر في السابق، تشمل فقط حركة الاخوان المسلمين التي خاضت عصياناً مسلحاً ودموياً ضد النظام وقامت بأعمال ارهابية داخل سورية في الثمانينات من القرن الماضي, وقد حالت الاجراءات والمضايقات الأمنية المشددة، دون انعقاد اللقاء التأسيسي للتجمع العلماني الليبرالي الديموقراطي الذي كان مقرراً في منطقة الزبداني في الخامس من شهر اغسطس، وفي السادس منه فاجأت قوات الشرطة والأمن لجان أحياء المجتمع المدني في دمشق، وهي تعقد اجتماعها الدوري العام، وقد أجبرتها على فض الاجتماع ومغادرة المكان، وفي العاشر منه حصل الشيء نفسه لملتقى العمل الوطني الديموقراطي في مدينة السويداء، وتكرر المشهد ذاته في العديد من المدن السورية، كما طالت المضايقات الأمنية، أحزاباً آشورية وأخرى كردية, جرى كل هذا بحجة أن «القانون يمنع عقد مثل هذه الاجتماعات واللقاءات» في حين أن الدستور السوري ــ المعطل بسبب قوانين الطوارئ ــ يكفل حرية الرأي والتعبير والكلمة والاعلان والاجتماعات السلمية لجميع المواطنين السوريين.
ان بعث الروح والحياة في القوانين الاستثنائية وانعاش العقلية الأمنية من جديد ــ والتي اعتبر البعض انها باتت جزءاً من الماضي ــ في مرحلة أحوج ما تكون سورية فيها الى مزيد من الانفراج السياسي للتخفيف من حالات الاحتقان وزيادة اللحمة الوطنية في المجتمع، انما تعكس، بشكل أو بآخر، عجز النظام عن تقديم الحلول والمعالجات الصحيحة لمشكلات وأزمات الواقع السوري، بدءاً من قضية الديموقراطية ومشكلة الفقر والبطالة واستفحال ظاهرة الفساد والبيروقراطية في مؤسسات الدولة,كما أن العودة الى نظرية المؤامرة وسياسة كيل التهم لناشطي ومثقفي الحراك السياسي (اتهم وزير الاعلام السوري مثقفين وكتاباً سوريين يكتبون في صحف تصدر في الخارج بأنهم سيكونون في المستقبل كتاب جريدة «يديعوت أحرونوت» الاسرائيلية) يعكس مدى تخبط وارتباك السياسة السورية تجاه الأحداث والتطورات الدولية والاقليمية الضاغطة على سورية, ويشكل، التراجع عن الهامش المحدود للحريات، امتحاناً سريعاً لمدى جدية حزب البعث في تطبيق وتنفيذ تلك القرارات والتوصيات الخجولة التي خرج بها مؤتمره الأخير، والمتعلقة بالتعددية الحزبية والحريات الاعلامية والسياسية، وحصر استخدام قانون الطوارئ في قضايا أمن الوطن، وبات واضحاً أن تلك القرارات كانت التفافاً بعثياً على مطالب التغيير والتحول الديموقراطي في البلاد، وليحمي موقعه، كحزب قائد للدولة والمجتمع.
ان تراجع السلطات السورية عن الانفراج النسبي والتخلي عن سياسة غض النظر والتسامح مع الرأي الآخر،يؤكد من جديد، أن الديموقراطية الحقيقية والحريات لا يمكن أن تأتي بتوصية أو بقرار من حزب حاكم، وانما تحقق عبر صيرورة نضالية طويلة ومن خلال حدوث تحولات ثقافية وفكرية واجتماعية عميقة تبنى وتؤسس عليها الديموقراطية وتحتضنها,فبسبب افتقار المجتمع السوري الى التقاليد الديموقراطية والثقافة الليبرالية، وضعف المجتمع السياسي المدني والأهلي، سرعان ما تأخذ سياسة القبضة الأمنية مفعولها وتربك مختلف قوى وتيارات المعارضة السورية وتقلق معظم ناشطي الحراك الديموقراطي وتشل حركتهم, وللأسباب التي سقناها الى جانب أسباب أخرى، ذاتية وموضوعية، في مقدمتها الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي أحاطت بالمعارضة السورية طيلة العقود الماضية، دفعت بالكثير من السوريين الى العزوف عن العمل السياسي وعدم التعاطي بالشأن العام، ونشوء معارضات نخبوية، غير متماسكة سياسياً وديموقراطياً، لم تستطع مد الجسور وفتح أقنية وبوابات التواصل والتفاعل بينها وبين قطاعات واسعة من الفئات المحرومة من الشعب السوري صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الديموقراطي وفشلت في تكوين رأي عام سوري قوي وفاعل يحتضن القضايا والمطالب التي تطرحها المعارضة ويدافع عنها.
مع استمرار الضغوط الخارجية على سورية، وتحرك الشارع السوري عبر الاحتجاج السياسي السلمي والهادئ (الاعتصامات الرمزية) على الأوضاع السائدة وصعود مشكلة الأقليات في الداخل السوري، من المتوقع أن تستمر السلطات السورية في سياسة تضييق الخناق على المجتمع السياسي المدني والأهلي المستقل، الذي يقف خلف الحراك السياسي والديموقراطي والنشاط الحقوقي المعارض، وسد كل ما تبقى من المنافذ والمنتديات المحدودة للرأي الآخر التي أثمرها ربيع دمشق القصير.
من دون شك، ان العودة من جديد الى سياسة الابعاد والاقصاء ومصادرة الحريات، ستزيد من تعميق الأزمة الداخلية وستسبب المزيد من الاحتقانات السياسية والاجتماعية في المجتمع السوري، وتقود في النهاية الى عكس النتائج المتوخاة منها، اذ لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور ويزدهر من غير أن تتحرك قواه الحية التي تشكل مصدر فعاليته وديناميكيته، بحرية وبعيداً عن هيمنة السلطة ووصاية الحزب القائد، ومن غير أن تسوده العدالة والمساواة، ومن أن توجد فيه صحافة حرة تراقب عمل وأداء الحكومة وتلاحق مصادر الفساد وتشير الى مراكز الخلل في أجهزة السلطة ومؤسسات الدولة، ومن غير قضاء مستقل ونزيه، يعاقب المسيئين ويردع الظالمين ويرد الحق لأصحابه.

مصادر
الرأي العام (الكويت)