«بذل كل جهده لإنجاز الفشل, ولم ينجح». جملة عابرة رماها الشاعر محمود درويش في جلسة خاصة, واصفاً سلوك شخص ما, ورد ذكره في خضم أحاديث تواردت برشاقة وعفوية حول مائدة في أحد مطاعم دمشق القديمة, خالطتها قصص غريبة وأخرى طريفة مع شاعر تخفف من أعباء الشعر والشهرة ليمضي معنا ليلة هادئة, كنا بأشد الحاجة إليها, ليس لنتعرف إليه عن قرب أكثر وحسب, وإنما لنستمتع معه بالاستخدامات الحرة للغة تطلق العنان لتوصيفات تسعى إلى إصابة الهدف, وقد تصيبه في الصميم تماماً.
«بذل كل جهده لإنجاز الفشل ولم ينجح» كان رنينها في البال أقوى من أي كلام آخر, ربما لأنها اختزلت برشاقة التعبير عن حالنا, كلما ملأنا الدنيا صخباً بإنجازاتنا الصغيرة والكبيرة, ومن ثم لا نجني من ورائها سوى الفشل؛ بل والفشل حتى في إنجاز الفشل, فهل نحن فاشلون إلى هذا الحد, أم أن ما نطلبه هو الفشل المثالي, ولهذا نخفق؟! لنتأمل على سبيل المثال احتفاليتنا الثقافية وهي الورقة الأخيرة التي نتعامل معها كإحدى وسائل تحسين صورتنا أمام الآخر؛ الآخر المصر على أن لا يرانا, ولهذا باتت ثقافتنا وسيلة تحسين لا تحصين, ولم تعد تعنينا كوسيلة بناء أكثر رسوخاً, بقدر ما هي وسيلة تزييف وادعاء, وتكديس إنجازات وهمية. وحتى بهذا المعنى لا يبدو أننا ننجح كثيراً, فيعود بدوي الجبل إلى دمشق بمعية مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري, في ندوة بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية, إلا أن المناسبة تمر باهتة كورق جريدة عتيق, بعيداً عن الأضواء, في القاعات الظليلة في دار الأسد للثقافة, حتى كاد الحضور يقتصر على المشاركين والمنظمين فقط, وبما يشبه إقامة مجلس عزاء تأخر عقوداً طويلة, فلم يكن مسموحاً من قبل إعلان خبر الوفاة, ولم تشكل مناسبة الإحياء للأسف فرصة لعبقرية الشاعر بدوي الجبل, ليكون صلة الوصل بين أجيال عاصرته وأجيال لم تسمع بأكثر من اسمه.
في أمسية محمود درويش الأمور معكوسة, لأن الشاعر حي ويتجدد, ويتجدد معه جمهور فتي لا تتسع لها أكبر الصالات, لكن هكذا مناسبة, ألم تكن تستدعي حضوراً ثقافياً وأدبياً وفنياً, أي حضور الثقافة السورية, فلماذا لم توجه دعوات إلى الشعراء الشباب والشياب والروائيين والقصاصين والرسامين والممثلين وسائر المبدعين في بلدنا, وكل من يبني لبنة في مدماك ثقافتنا المتهاوي, فلم نر أيا منهم سواء في الأمسية أو في حفل التوقيع, ولم تنتهز مناسبة وجود درويش كحالة شعرية لخلق حالة تواصل ثقافية اجتماعية, كما لم يستفد من تظاهرة معرض الكتاب لخلق هذه الحالة التي نفتقدها, وكأن قطيعة قدرية مفروضة على أهل الثقافة في بلادنا, أم هو التنظيم الذي يتولاه موظفون رسميون يبذلون كل جهدهم لتلميع صورهم الشمسية المثبتة في ملف حسناتهم وسيئاتهم, بانتظار يوم الحساب وارتقاء سلالم المناصب.
أما صورة ثقافتنا البهية, فلا بأس من تركها في اسفل سلم أولوياتهم, إذ يقاس النجاح أو الفشل ضمن جهود فلان أو علتان, وبمؤسسات تنفق بلا حساب على جيوش العاملين فيها. فيغدو عادياً أن يستنكر وزير الثقافة في مؤتمر صحفي تصرف مدير مكتبة الأسد التابعة لوزارته ووصفه بـ«المشين», وكأن لا سلطة لهذا الوزير على ذاك المدير!! أو كأن شور المدير من رأسه ويحق له إقامة الفعاليات الثقافية في عرينه, كما يحق له بيع منجزه الوظيفي لمن هو أعلى من الوزير, على الضد من قاعدة تفيد: إذا حقق أي مهرجان أو ندوة نجاحاً نسبياً, يحسب للمدير والذي بدوره يبيعه للوزير كنجاح كلي منقطع النظير, فيطمئن الوزير لجلوسه على الكرسي الوثير حتى يحدث العكس, أما إذا اخفق مهرجان كمهرجان المحبة ولم يحقق البرونزاج الثقافي المأمول, يُرد على الوزارة, بانتزاعه منها ويجري تلزيمه للتجار ليطرحونه للاستثمار السياحي, ويقاس حينها الربح والخسارة بعائدات الصناديق المالية, وقد يكون هذا أفضل الحلول السيئة التي تسقط المعيار الثقافي من حساباتها, ولا يبقى بين أيدينا ما يحسن صورتنا لا في الداخل ولا الخارج, لان واقعنا ليس الثقافي وحسب, واقع مشوش, أشعث الشعر, منفوخ العينين يهرب من بؤسه إلى نوم كابوسي طويل, ومطلوب في الوقت نفسه من الإعلام والإعلاميين تحسين صورته بالكلام الكاذب حيناً, وبدهاء الفوتوشوب أحياناً أخرى, ليظهر بشعر مسرح وعيون حالمة, وقلب ينبض بالحياة. صورة تمكن المعلنين من الترويج لنشاط رياضي ملأ شوارع دمشق بإعلان «سوريا تنبض», حتى لو أدت إلى رسالة معاكسة كما وصلت لفنان تشكيلي شاب تساءل: ما المقصود من القول «سوريا تنبض»؟ متى دخلت بلدنا غرفة العناية المشددة؟!
هل ثمة حاجة إلى التعليق, بأننا نسعى إلى إنجاز فشل, أكثر فشلاً من الفشل نفسه؟!

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)