يتقدم الادعاء القضائي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري تقدم السلحفاة المواظبة. وهو من طبيعة عمل التحقيق الذي يجمع الأدلة الى أن يستكملها، ومن طبيعة عمل القانون الذي يتعاطى مع أفراد بعينهم، نائياً عن السياسة والتعميم السياسي. بيد أن الادعاء السياسي على القضايا، لا الأشخاص، يتقدم تقدم الأرنب الكسول.

فهو، من جهة، أرنب يملك قابلية القفز السريع. ويجدر الإقرار بأن متظاهري 14 آذار (مارس) أثبتوا وجود هذه القابلية حين وجهوا تهماً سياسية تبين لاحقاً انها تهم قضائية أيضاً. هذه كانت أسبقية تستدعي الاعتراف بها ولها.

وهو، من جهة أخرى، أرنب كسول لأنه يريد ضبط اندفاعة التحليل السياسي لأسباب عدة أقلها حضوراً حرص السياسيين على سلامة العملية القضائية. فهناك من يريد للاندفاعة هذه أن تقف حيث يقف الضباط الأربعة، ومن يسعى الى مدّها بحيث تطاول الرئيس اميل لحود وحده، ومن يرغب في كبحها أمام بوابات دمشق، ومن يطالبها مسبقاً بالانحناء أمام قدس المقاومة. وهناك من يخضع لابتزاز الواقع الأهلي، وأسبابه في هذا وجيهة، ومن يخضع لابتزاز اللغة الموروثة فتصطك أسنانه حين يقال، حتى لو كان القائل النائب السابق ناصر قنديل، انها «محاكمة للعروبة».

والحال ان الذي حصل لا يمكن أن يقتصر على ضباط أربعة، وهي بديهة لا يعوزها النقاش. فلو كان الأمر هكذا فعلاً لصحت تصورات الأطفال في وصف السلطة وصناعة القرار. غير أن المطالبة بدفع الأمور الى نهاياتها السياسية تملي طرح اسئلة من نوع: ما المصالح التي تفيد من رحيل الحريري؟ وأي وعي يمكن ان يحمل في ذاته بذرة اغتيال الحريري؟ وما سوابق النزاعات الكبرى، في الأمور السياسية، مع الحريري؟

لا شك في أن صورة ايديولوجية وسياسية للبنان، مرفقة بعديد المنافع، الكبير منها والصغير، صادمت الحريرية وارتبطت بعلاقة ضدية، بل تناحرية، معها. واذا ما طرحنا التفاصيل جانباً، قام ما مثّله الرئيس الراحل على تصوّر للبنان والمنطقة يستبعد السيناريوات الراديكالية بأنواعها. فهو سعى الى مواكبة الواقع اللبناني في طابعه التعددي، والى علاقة بسورية لا تجافي العلاقة بسائر العرب كما لا تحول دون سير تدرجي الى استعادة السيادة للبنان. وهو كان دوماً صديق الاعتدال في السياسة العربية، مدركاً مدى اعتماد مشروعه لبلده على سلام في الشرق الأوسط. واذا كانت العناوين العامة هذه لا تخفي اجتهادات وتلوينات للرئيس الراحل، وتعديلات في صيغها المألوفة وتوازناتها، بقي اثنان جوهريين فيها: أن يعكس لبنان حصيلة ما تستقر عنده طوائفه ويتأسس عليه إجماعها، وأن يتاح مناخ مطمئن، من دون عسكر يتدخل في السياسة أو عنف يهدد الاستقرار، جاذب للرساميل العربية منها والغربية.

ويحق لأي كان، بطبيعة الحال، ان يعارض هذه الخطوط العريضة، وأن يتمنى خطوطاً عريضة مختلفة يُحكم لبنان بموجبها. والراهن ان أصحاب هذه الأخيرة هم الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور ممعنين في تهميش الحريري وما يمثل. فعندما حدثت تحولات دولية واقليمية وداخلية بدا مستحيلاً معها الحفاظ على الوضع القائم، اغتيل رفيق الحريري.

وقصارى القول انها جريمة تشير الى احتمالات العنف الذي يصدر عن وعي كهذا. ففضلاً عن أن تلك القوى المتشاركة فيه غير معروفة باستهجان العنف أو رفضه أو ادانته، في السلوك أم في الأفكار، لم يعد في جعبتها الا العنف لقسر الواقع اللبناني ضمن رؤيتها ومصالحها. ذاك ان التحولات المذكورة أتاحت للبنان، أو بعضه الكثير، أن يشهر مواصفاته كبلد تعددي لا يعيش من دون انفتاح على محيطه العربي كله، وعلى العالم الأوسع تالياً. وبالمعنى هذا نيط بالاغتيال ما نيط في ظروف سابقة بالحرب الأهلية وبحروب مصيرية من غير اجماع عليها، وبفرض ايديولوجيا رسمية تخوّن من لا يأخذ بها. فإذا كان هذا «النظام» هو «العروبة في لبنان»، صح قول القائل انها محاكمة للعروبة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)