سيكون الخريف المقبل هو موعد الحصاد الأميركي لجملة تطوّرات وأحداث ساهمت الادارة الأميركية بزرعها أو برعايتها في المنطقة العربية منذ مطلع العام الحالي, ولعلّ ما حدث ويحدث في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة هو أبرز ما في جعبة الحاصد الأميركي, فهناك الآن ثلاث حكومات، في كلٍّ من بغداد وبيروت ورام الله، تنال الرضا والدعم الأميركيين، وكلٌّ منها جاء بعد انتخاباتٍ شجّعت عليها واشنطن بكلّ الوسائل المعلنة أو غير المعروفة.
وفي كلٍّ من هذه المواقع الثلاثة، ثمار محدّدة تريد الادارة الأميركية أن تجنيَها، لكن الحاصد الأميركي يتعامل معها وكأنّها أشجار متنوّعة في غابةٍ أميركية واحدة، حيث حريق احداها قد يُشعل الغابة كلّها.
وربّما لم تكن صدفةً أيضاً أن يكون ترتيب ما حدث في هذه المواقع متوافقاً مع ترتيب الاهتمامات والأولويّات الأميركية, فالعراق الآن هو على رأس أولويّات الادارة الأميركية، لأنَّ الفشل أو النجاح فيه هو فشل أو نجاح للادارة نفسها، ولمن فيها أو يقفون خلفها من قوًى وتيّارات وشبكة مصالح, لذلك، كانت الانتخابات العراقية في مطلع العام هي بداية المراهنة الأميركية على حصاد العام في المنطقة كلّها, وكانت واشنطن، ولا تزال، تأمل أن تؤدّي هذه الانتخابات، ثمّ تشكيل الحكومة العراقية الى اقرار وضعٍ دستوريٍّ جديد، والى بناء القوات المسلّحة العراقية، لتقوم في بغداد سلطة جديدة متعاونة بشكلٍ كامل مع واشنطن، وقادرة على تحمّل معظم المسؤوليات الأمنية التي تقوم بها الآن القوات الأميركية والأجنبية هناك، وممّا ينزع صفة الاحتلال عن الأميركيين ويخفّف عبء الخسائر البشرية والمادّية المتصاعدة.
ثمّ كانت الانتخابات الفلسطينية وتشكيل حكومة السلطة الفلسطينية، بمثابة حجر الأساس لتنفيذ خطّة الانسحاب الاسرائيلي من غزّة، وهي الخطّة التي ستعتمد عليها واشنطن لتسويق برنامجها السياسي والاقتصادي في المنطقة المعروف باسم «الشرق الأوسط الكبير».
أمّا الانتخابات اللبنانية الأخيرة وما حصل فيها وما نتج منها من تحالفات سياسية أفرزت حكومةً نالت الترحيب الأميركي والدولي، وخصصت لدعمها الوزيرة رايس زيارة مفاجئة للبنان، فهي محطّة مهمّة في سياق الترتيب الأميركي القادم للمنطقة.
فالاصرار الأميركي على اجراء الانتخابات اللبنانية في موعدها لم يكن حرصاً أميركياً على موعد اختاره أصلاً المجلس اللبناني القديم، بل كان ذلك لوضع جدول زمني أميركي ودولي للانسحاب العسكري السوري من لبنان ولفك الارتباط بين دمشق وبيروت.
انّ سورية هي طرف مهم ومباشر في سياق البرمجة الأميركية القادمة للمنطقة, فدمشق معنيّة بالمسألة العراقية من خلال الحدود الجغرافية والتاريخ السياسي للبلدين, ودمشق تحتضن قوى ومنظمات فلسطينية معارضة للسلطة الفلسطينية أو لمشروع الحلّ السياسي الأميركي للقضية الفلسطينية, ودمشق كانت عاملاً مهمّاً في نجاح المقاومة اللبنانية ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، وما زالت على علاقة جيّدة مع «حزب الله» (المغضوب عليه أميركياً واسرائيلياً), ودمشق لم تُوقّع حتى الآن على معاهدة مع اسرائيل أو تُقم علاقات معها، كما حصل مع مصر والأردن والمنظمة الفلسطينية, وهذا الواقع السوري بشأن التسوية مع اسرائيل كان وما زال مانعاً لحدوث اتفاق منفرد بين لبنان واسرائيل, أيضاً، دمشق هي الصديق الأقرب لايران في المنطقة، بينما تسعى واشنطن لمزيد من الضغوط والعزل والحصار لطهران.
فما حدث في هذا العام من تطورات سياسية، ومن استمرار للضغوط الأميركية، جعل دمشق أكثر وضوحاً في حرصها على التجاوب مع المطالب الأميركية، أملاً من الحكومة السورية بدفع واشنطن نحو خيار التفاهم على النهج السياسي وعدم اعتماد خيار تغيير النظام السياسي.
وهناك جملة اشارات ورسائل ايجابية بعثت بها دمشق الى الادارة الأميركية لكن الجواب لم يأتِ بعد، وأعتقد أنّه لن يحصل قبل اتمام الانسحاب الاسرائيلي من غزّة وقراءة التطوّرات بعد ذلك.
انّ سورية أظهرت التجاوب مع السياسة الأميركية في أكثر من ساحة وقضية, فهي استقبلت بترحيب كبير رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وسهّلت اجتماعاته مع المعارضة الفلسطينية, وهي نفّذت الانسحاب الكامل من لبنان عسكرياً وأمنياً، ولم تتدخّل في العملية الانتخابية ولا في كيفيّة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة, وقامت سورية أيضاً باجراءات عسكرية وأمنية على الحدود مع العراق لمنع التسلّل اليه من قبل جماعات وأفراد يسعون الى عمليات عسكرية في العراق, كما أظهرت دمشق استعداداً للتعاون مع الحكومة العراقية في مختلف المجالات، اضافةً الى تعزيز التعاون مع الحكومة التركية بل دفع أنقرة الى الوساطة ما بين واشنطن ودمشق.
كلُّ هذه الخطوات السورية (السياسية والأمنية) قد تكون بمثابة أرضية جديدة تعتمد عليها واشنطن لاتخاذ قرار باستئناف المفاوضات السورية ــ الاسرائيلية في الخريف المقبل، يتبعها توقيع معاهدات بين اسرائيل وكلٍّ من سورية ولبنان، ليكتمل بذلك عقد المعاهدات بين اسرائيل وجوارها كلّه.
فالبناء الأميركي الجديد للمنطقة يحتاج الى توقيع معاهدات بين اسرائيل وسورية ولبنان لأنّ هذه المعاهدات، مع اتمام الانسحاب الاسرائيلي من غزّة، سينهي من وجهة النظر الأميركية الصراع «الرسمي» بين اسرائيل والعرب، وسيزيل كلَّ الحواجز التي تمنع بعض الدول العربية والاسلامية من اقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل.
وربّما يكون السيناريو أن يحصل مؤتمر دولي على غرار مؤتمر مدريد 1991، تشارك فيه اسرائيل وكل الدول العربية، اضافةً الى أطراف اللجنة الرباعية المعنيّة بخارطة الطريق الأميركية (روسيا ــ الاتحاد الأوروبي ــ الأمم المتحدة ـ أميركا)، وتكون من نتائج هذا المؤتمر: استئناف المفاوضات بين اسرائيل وسورية ولبنان - احياء عملية التطبيع مع اسرائيل، واقرار صيغ جديدة لبناء دولة فلسطينية تتفاوض مع اسرائيل مستقبلاً على القضايا الكبرى المتعلّقة بالحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين، وبما يعيد الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلّة الى ما كان عليه قبل سبتمبر 2000 من توزيع للمناطق بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الاسرائيلي.
هناك الآن توافق كبير بين السياستين الأميركية والاسرائيلية في المنطقة، وهناك تقاطع حاصل في المصالح والأهداف بينهما، لكن الرؤية البعيدة المدى للمنطقة قد تختلف على بعض التفاصيل, فواشنطن لا تريد مستقبلاً ما تريده حكومة شارون من اكتفاءٍ بالانسحاب من غزّة ومن تعزيزٍ للمستوطنات في الضفّة، لأنّ ذلك سوف يعطّل المشروع السياسي والأمني الأميركي للمنطقة الذي يطمح الى «الاستقرار الأمني»، ولو من خلال عدم «الاستقرار السياسي» في هذه المنطقة.
والخريف المقبل قد يحمل سقوط أوراق سياسية عديدة في يد هذا الطرف أو ذاك، لكنّه حتماً سيكون موسم الحصاد الأميركي بعد أن أصبحت المنطقة مزرعةً أميركية يتمّ الآن فيها ترويض وتدجين الراغبين بالبقاء على الحياة فيها!

مصادر
الرأي العام (الكويت)