ماذا تعني المعركة الدائرة بين آرييل شارون وبنيامين نتنياهو حول زعامة حزب الليكود؟ تعني أن بنية المجتمع الإسرائيلي، إذ تحتج على زعامة شارون المشهور بيمينيته، تنتج يمينية اشد تطرفا سيمثلها نتنياهو. وهكذا يمضي المجتمع الإسرائيلي من قيادة متطرفة إلى قيادة أشد تطرفا، وكأنه لا يعرف إلا تدمير نفسه وتدمير من حوله.
إن الوقائع الإسرائيلية تتوالى كما يلي:

- تجتمع الحكومة الإسرائيلية برئاسة شارون، وتقر خطة استيطانية جديدة تسميها خطة (A1)، وذلك من أجل بناء 3500 وحدة سكنية تكمل الوصل الجغرافي بين مستوطنة معاليه أدوميم ومدينة القدس.

- يأتي نتنياهو بعد أن استقال من الحكومة إلى منطقة البناء هذه، ويتهم شارون بأنه يتأخر في إنجاز البناء، ويدعو إلى بناء فوري لخمسة آلاف وحدة استيطانية. ويفتتح بهذا الموقف حملته الانتخابية ضد شارون على زعامة حزب العمل.

ويوضح هذا الاختلاف في المواقف، الفارق الوحيد بين الرجلين. الأول يريد بناء 3500 وحدة سكنية، والثاني يريد بناء 5000 وحدة. أي أن المتطرف الإسرائيلي الأول شارون، يجد دائما من يزايد عليه في التطرف. وفي إسرائيل يسمون هذه المعركة، المعركة على رئاسة حزب الليكود، أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهي معركة الاستيطان، وهي معركة القدس، وهي معركة الكانتونات، وهي معركة الانسحاب الإسرائيلي، وهي معركة الدولة الفلسطينية المستقلة. وهذه كلها عناوين لم يعد لها وجود في مسيرة التسوية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، لا في اتفاق اوسلو يرحمه الله، ولا في خريطة الطريق التي يكاد يتبرأ الجميع من أبوتها، فشارون يعلن رسميا أن القدس خارج نطاق التفاوض مع الفلسطينيين، وهو يعلن بعد ذلك أن المستوطنات الكبرى حول القدس هي أيضا خارج نطاق التفاوض، وهو يدعو الفلسطينيين بعد ذلك إلى «ضرب الإرهاب الفلسطيني» من أجل البدء في تطبيق خريطة الطريق. حسنا لنتصور أن الإسرائيليين قبلوا هذا المنطق الإسرائيلي، وباشروا فورا ضرب «الإرهاب الفلسطيني»، ونجحوا في الامتحان الإسرائيلي المطلوب منهم، فماذا سيقدم لهم شارون بعد ذلك؟ سيقدم لهم 42% من أرض الضفة الغربية، مقطعة إلى ثلاثة كانتونات، وتحيط بها المستوطنات الإسرائيلية من كل جانب، ومعزولة عن أراضيها الزراعية بالجدار العازل، ويقول لهم: أنشئوا دولتكم فوق تلك الكانتونات المقطعة الأوصال. هل يقدم هذا العرض الإسرائيلي أي إغراء لأي مسؤول فلسطيني لكي يقدم فعلا على خوض غمار حرب أهلية فلسطينية من أجل هذا الثمن؟ ثمة في السلطة الفلسطينية من يسعى، رغم معرفته بكل هذه الوقائع، إلى مقابلة شارون مرة ثانية وثالثة ورابعة. يراهن أصحاب هذا الرأي، حسب ما يقولون، على إقناع شارون، فإن لم يقتنع في المرة الأولى (وقد تم ذلك) فسنحاول إقناعه في المرة الثانية، أو في المرة الثالثة، وهكذا دواليك. كأن شارون تلميذ في مدرسة منطق أرسطو، يسعى إلى المعرفة وامتلاك الحقيقة. أو كأن الذين يحاورونه لإقناعه لا ينظرون إلى يديه أثناء اللقاءات، ولا يرون كم هي مضرجة بالدم. ولا ينظرون إلى عينيه أثناء اللقاءات، ولا يرون كم هي تواقة للدم. وقد آن لأصحاب هذه المدرسة الفلسطينية التي تريد أن تمارس السياسة من خلال منطق أرسطو أن تعيد النظر في نفسها وفي ما حولها. أن تنظر مثلا إلى حاجز قلنديا الفاصل بين رام الله والقدس، لترى كيف أن إسرائيل قد أغلقته من أجل إعادة بنائه كمعبر حدودي يفصل بين دولتين، أي أن المرور منه سيتطلب الحصول على «فيزا»، على أساس أن المسافر من رام الله الفلسطينية، وحين يدخل إلى منطقة القدس، يكون قد دخل إلى أرض دولة أخرى، إلى أرض دولة إسرائيل. هل يوجد في منطق أرسطو ما يساعد على حل هذه المعضلة؟ يقول منطق أرسطو أن (ألف هي ألف) وأن (باء هي باء)، فهل بين رجال هذه المدرسة السياسية الفلسطينية من يستطيع قراءة الأحرف قبل قراءة الكلمات، وقبل قراءة الجمل، وقبل قراءة المعابر الحدودية؟

وهناك القصة الأخرى حول معبر رفح نحو مصر. لقد أمضى شارون أشهرا طويلة وهو يرفض الكشف عن موقفه من قضية المعبر. هل ستخليه إسرائيل أم لا؟ وهل ستسلمه إلى الفلسطينيين أم لا؟ وقال الفلسطينيون كلاما كثيرا حول تمسكهم بهذا المعبر، وساندهم بذلك المصريون، حتى أنهم أرسلوا عمر سليمان رئيس المخابرات بكل جلال قدره، وبكل الهيبة التي لديه، ليحاورهم بشكل نهائي حول هذه القضية، فأبلغوه بجوابهم النهائي القائل: يمكن للفلسطينيين أن يغادروا قطاع غزة عبر معبر رفح بصورة حرة، على أن يعودوا عبر معبر إسرائيلي جديد هو معبر (كيرم شالوم). يعني هذا أن إسرائيل ستبقى مسيطرة على معابر الدخول إلى غزة، دخول الأفراد ودخول البضائع. وهو أمر يؤكد أن إسرائيل انسحبت من داخل القطاع وتريد أن تبقي القطاع تحت سيطرتها العسكرية الاستراتيجية برا وبحرا وجوا، أي أن قطاع غزة لم يتحرر تماما من الاحتلال الإسرائيلي.

رغم ذلك يصدر وزير الداخلية الفلسطيني بيانا إنذاريا يقول فيه «إن السلطة الفلسطينية والقيادة السياسية المنتخبة لن تسمحا بوجود جماعات مسلحة وجيوش خاصة بها بعد انتهاء وزوال الاحتلال الإسرائيلي عن المناطق المنوي الانسحاب منها». ألا تشمل مسؤولية وزير الداخلية المعابر والموانئ والمطارات؟ ولماذا لا يصدر بيانات حولها قبل أن يصدر بيانا حول سلاح المقاومة؟

تستدعي خلاصة هذا الوضع موقفا تفاوضيا استراتيجيا يخرج من دائرة الإقناع المستحيل، إلى دائرة وضوح المواقف، وتحشيد الحلفاء، وعدم التفريط بعناصر القوة الذاتية المتمثلة بالمقاومة وسلاحها، فثمة مواقف معلنة لا بد من التمسك بها، وثمة مواقف أعلنت في السابق لا بد من التخلي عنها. وهكذا تتبلور صورة الموقف السياسي المطلوب كما يلي:

أولا: أن تعلن السلطة الفلسطينية أن الاحتلال لم ينته، لا في غزة ولا في الضفة الغربية، وأن من حق الشعب المحتل أن يقاوم الاحتلال بكل الطرق التي يراها مناسبة.

ثانيا: أن تعلن السلطة الفلسطينية أن خطتها للتفاوض هي مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت (مبادرة الملك عبد الله ملك السعودية)، كوسيلة لحشد الموقف العربي حولها.

ثالثا: أن تعلن السلطة الفلسطينية، استنادا إلى القانون الدولي، واستنادا إلى القرار 242، واستنادا إلى مبادرة السلام العربية، أن الانسحاب الإسرائيلي لا بد أن يكون كاملا وناجزا إلى حدود العام 1967، ومن دون أية استثناءات أو تعديلات، مع خصخصة مدينة القدس الشرقية بالذكر.

رابعا: يتضمن الموقف السابق الإعلان الفلسطيني عن ضرورة إزالة المستوطنات الإسرائيلية كافة من الضفة الغربية. وأية مستوطنة تبقى ستكون تحت سيادة الدولة الفلسطينية المستقلة، وسيعامل سكانها على غرار ما تعامل إسرائيل السكان العرب لديها (مليون و300 ألف مواطن).

خامسا وأخيرا ... لقد طرحت في مفاوضات كامب ديفيد قضية تبادل الأراضي، كوسيلة لإبقاء الاستيطان في الضفة الغربية، وفشلت المساومة في حينه. وقد آن الأوان لأن يعلن الطرف الفلسطيني رفض مبدأ التبادل هذا.

هل هذه مطالب فلسطينية متطرفة؟ حسنا.... لنقارنها بما يعلنه شارون، وبما يعلنه نتنياهو، وسيظهر آنذاك كم هي مطالب معتدلة. مطالب سلام وليست مطالب حرب.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)