ما ظهر حتى الان من تحقيقات المحقق الدولي القاضي الالماني ديتليف ميليس في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري يؤكد الاستنتاج السياسي لمعنى الجريمة فور حصولها في 14 شباط (فبراير) الماضي. اذ ان دائرة الاشتباه لم تخرج عن النظام الامني المشترك اللبناني - السوري. وما كان ممكنا ان تنتقل الشبهات في التحقيق الدولي الى ادعاء في التحقيق اللبناني لولا الانسحاب العسكري السوري من لبنان، تنفيذا للقرار الدولي الرقم 1559. ولولا تحول التمثيل النيابي، عبر الانتخابات الاخيرة، للنظام الامني من غالبية الى اقلية، ما اتاح تحييد اي تأثير للنظام السابق في الاجراءات القضائية. ولا يعكس الجدل الحالي بين الرئيس اميل لحود، الصوت الاخير في النظام السابق، وبين الاكثرية الجديدة ممثلة بحكومة فؤاد السنيورة، مجرد الخلاف على طبيعة هذه الاجراءات فحسب، وانما ينطوي ايضا على تعارض يرتبط بوظيفة النظام السابق. وهذا امر لن يكون لحود المدافع الوحيد عنه.

مفهوم ان النظام الامني لم يكن مجرد مجموعة ضباط تسلطوا على السياسة والادارة في لبنان. ولم يكن مجرد آليات لتقاسم النفوذ ورعاية الفساد والتدخل في الشؤون العامة وفرض الحمايات والولاءات. لقد استند هذا النظام الى الحال السياسية التي اعقبت اتفاق الطائف، بعدما كانت ممارسته قبل الاتفاق تقتصر على القوات السورية. اي انه اصبح نظاما مشتركا بعدما وجد تبريراته في الدفاع عن السياسة العامة للدولة المنبثقة من الاتفاق، ومن شعاراتها السياسية التي تبدأ بتلازم المسارين والتحرير ورعاية المقاومة ومحاربة الاتجاهات السلمية. وفي خضم هذه الشعارات، جرت رعاية تصفية الخصوم، من الملاحقات والتحجيم والسجن وصولاً الى التصفية. لقد ترافق الفساد والتسلط ونهب اموال الدولة والتدخل في الحياة السياسية مع الشعارات السياسية للسلطة ومع الولاء المطلق لدمشق. اي ان المشكو منه في النظام الامني المشترك تغذى وترافق مع السياسة التي دافع عنها، على نحو وصل احيانا الى تخوين من كان يرفع صوته للشكوى.

واليوم، بعد التوقيفات لكبار ضباط الامن في لبنان وقبل اسابيع من اعلان نتائج التحقيق وكشف تفاصيل جريمة الاغتيال والمشاركين فيها، يفرض على الغالبية الجديدة في لبنان ان تحدد طبيعة النظام الجديد، السياسي والامني، بما يمنع العودة الى نظام امني مماثل لذلك الذي سقط بفعل الاغتيال. واذا كان ثمة توجه الى إقالة او استقالة رئيس الجمهورية، تبقى خطوة كهذه اقل بكثير مما ينبغي القيام به، في حال لم تأت في اطار مشروع سياسي كبير جرى التعبير عن بعض بنوده في تظاهرة 14 آذار (مارس) المليونية، وهو المشروع الذي افتقدته حملة الانتخابات النيابية الاخيرة التي جرت وفق الآلية التي وضعها النظام الامني المشترك، وعجز القائمون عليها عن تحويلها الى انطلاقة للبنان الجديد.

واذا استبعدنا السيناريوات الكارثية التي تبشر بانهيارات ومواجهات، وافترضنا القدرة على جعل مرتكبي الجريمة، فعليا وسياسيا، مسؤولين وحدهم عنها، ستكون امام الغالبية مهمات استثنائية الاهمية في اعادة تركيب السلطة واطلاق حياة اقتصادية طبيعية. ومع الاخذ في الاعتبار لروحية اتفاق الطائف التوافقية، ينبغي التصدي لتلك السياسات التي مهدت وساهمت وبررت للنظام الامني سلوكياته وممارساته.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)