مع وصول لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس إلى لبنان، للقيام بالتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ارتفعت وتائر القلق العميق في لبنان وسوريا. كما تعاظمت المساجلات الدبلوماسية والسياسية بين الولايات المتحدة وسوريا وبلدان عربية أخرى. وراحت الأجواء العامة تدلهمُّ بشائعات وأقوال وإشارات يُراد أن يُفهم منها أن أخطاراً كبيرة قد تعمُّ البلدين المذكورين في أعقاب العمل، الذي تقوم به لجنة التحقيق المعنية، ويأتي هذا في سياق أحداث مأساوية تتناقلها وسائط الإعلام عن العراق وفلسطين. واللافت من ضمن ذلك أن تلك اللوحة المعتمة المعقدة لا تجد مكاناً لها في الإعلام العربي عموماً، والسوري على وجه الخصوص. فهذا الإعلام يُعتبر شاهد زور على ما يحدث في الحقل المذكور، بل هو أكثر من ذلك. ففي الإعلام السوري -وهو المعني في هذه المقالة- يفتقد المرء الخطاب الذي يضع القارئ أمام تلك الأخطار بموضوعية وشفافية، وبكيفية مؤسسة على المصداقية المعرفية الإعلامية أولاً، وعلى العمل باتجاه لمّ شمل المختلِف بروح المؤتلِف من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي.

ويلاحظ المراقب المدقق أن الإعلام السوري كلما أوغل في الازورار عن الجمهور، الذي يُفترض أن يكون هدفه، فإن هذا الجمهور يروح يبحث عن الأجوبة التي تطالبه بها الأحداث العظمى التي يعيشها، خارج هذا الإعلام، بل كذلك وبقدر معيّن خارج سوريا. ومن ثم، فإن الشرخ بين الطرفين المذكورين سيكون قابلاً للاتساع، إذا ما استمر القائمون على الطرف الأول في أن يصمّوا آذانهم. وهذا، بدوره، يطرح وجهاً آخر من المسألة ظهر -بصيغته النظرية العمومية- في السنوات الأخيرة من الفكر السياسي الراهن وفي بعض البلدان العربية مثل مصر وسوريا ولبنان والمغرب، ويظهر في مقولةِ "تجسير الهُوة بين الحاكم أو النظام السياسي والشعب".

وإيضاحاً لذلك، فإن الأصل في تلك المسألة، أن يفكر الحاكم ومعه النظام السياسي القائم في التقريب بينه وبين من هو حاكمٌ باسمه، أي الشعب. وصيغة "التقريب" المذكورة هي الحد الأدنى من العلاقة بين الطرفين، إذا ما غابت فإن النظام المعنِي يكون قد رضي أن تُسحب شرعيته منه. وهنا، سنواجه مشكلة بل مفارقة تقوم على أن مثل هذا النظام لا يمتلك الوعي الاجتماعي والتاريخي بمصالحه، التي تقتضي -في الحدّ الأول- الإبقاء على حدّ إيجابي معيّن من العلاقة بينه وبين الشعب الذي يحكمه. ومن شأن ذلك أن يطرح السؤال المركّب التالي نفسه على الباحثين كما على الشعب المذكور، وعلى هذين الفريقين أن يجيبا عنه: هل حقاً أن النظام السياسي المعنِي يفتقد الوعي بمصالحه الأساسية، المرتبطُ تحقيقُها بتحقيق مصالح الشعب المذكور، بقدر معيّن أو بآخر؟ هل لدى النظام إياه من المصالح ما يقف عائقاً أمام حدٍ من تجسير الهوة بينها وبين مصالح الشعب؟ ثم -وهذا ربما يكون الاحتمال الأخير- هل هنالك من المصالح المشتركة بينه (أي النظام) وبين القابعين وراء حدود الوطن مِن الطامعين بثرواته أو مِمّن يُعتقد أنهم الحماة الحقيقيون لرؤوس النظام وقادته ورموزه؟

إن ذلك -في إجماله وعمومه وفي صيغته الأكثر إشكالية واحتمالاً للمخاطر- يضعنا حقاً أمام مسألة الضمانة للديمقراطية، التي يمكن أن تكون إجابة على التحفظ على أية قوة سياسية عربية تصل إلى السلطة. لِنقُل من حيث الأساس، إن الضمانة تكمن في التأسيس لمجتمع ديمقراطي يقوم على كذا وكذا من القواعد ولكن خصوصاً على اثنتين تظهر أهميتهما هنا على نحو فائق. أما أولاهما فتتمثل في وجود جيش هو أولاً وأخيراً جيش الوطن، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون جيشاً تابعاً لحزب ما من الأحزاب، أو لأيديولوجية ما من الأيديولوجيات. أما القاعدة الثانية فتتمثل في التأسيس لمجتمع مدني نشيط يزرع في حياة الناس قيم الحرية والمساواة والدستورية.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)