لماذا علينا النظر إلى تحقيق ميلس على أنه مساحة محدودة !!! فمنذ أن باشرت اللجنة عملها في بيروت والمسألة تتراوح حول الاتهامات ودائرتها، والسيناريوهات المرسومة مستقبلا. لكن "التحقيق الدولي" يشكل البداية لصورة لم تتضح بعد، وذلك بغض النظر عن النتائج الجنائية أو استباق الأمور باتجاه المحاسبة السياسية.

ما نراه في وجود ميلس لا يتعلق بقضية اغتيال الرئيس الحريري، إنما بطبيعة العلاقات الداخلية التي بدأت تحكم الشرق الأوسط إجمالا. ووجود ميلس لا نستطيع أن نبعده عن دائرة إعادة رسم "استراتيجية الأمن الإسرائيلي" التي سترفع لشارون مع نهاية السنة العبرية. ووجود ميلس لا يمكن فهمه إلا في سياق إغلاق الباب على زمن انتهى وليس فتح نوافذ على الماضي لقراءته من جديد.

حتى اغتيال الرئيس الحريري، مهما كانت الجهة الفاعلة، هو ضمن عملية الإغلاق القائمة التي تسارعت حتى أننا نعجز عن تحليل ما يمكن أن يظهر لاحقا. فـ"ميلس" موجودا في المنطقة، ولكن لا شيء خاضع للدراسة في جغرافية تتشظى فيها أشكال الصراع بعد أن كانت واضحة في منتصف القرن الماضي.

ما يستدعيه وجود ميلس اليوم ليس فقط إجراءات التحقيق، فهذا أمر رسمي وإجرائي، إنما فهم المنطق العام لما يجري اليوم وعدم الاعتماد فقط على الصور السياسية القديمة سواء كانت لسورية أو غيرها من دول المنطقة. وهذا الموضوع لا يندرج في إطار سياسة الدولة الخارجية بل هو أمر داخلي.

وجود ميلس بالعنوان العريض إجراء دولي ... ولكن منذ أن ظهر "الشرق الأوسط الكبير" و "الحرب على الإرهاب" فإن المسألة الدولية اصبحت شأنا داخليا لأنها متعلقة بالثقافة الاجتماعية. وإذا كانت الدولة العبرية تعيد رسم مفهوم أمنها فهذا يعني أن تكوين الصراع تبدل وأن علينا بالفعل أن ننظر لأنفسنا لمعرفة ما يمكن أن نقوم به غدا ... لأن ما سيترتب عن هذا "الأمن" مرتبط بمجتمعنا وليس بالصراع المسلح.

وجود ميلس في الشرق الأوسط يعيد للذاكرة صراع البلقان ... بغض النظر عن التشابه أو الافتراق، لكن المهمة بكافة آلياتها توحي بأن الزمن الجديد موجود فينا دون أن ندري أو نعرف أين سنتجه ... ويكفي مراجعة الأشهر الأخيرة لإزالة أي شك بحجم ما يحدث ... والمسألة اليوم، ثقافيا واجتماعيا على الأقل، كيف سنتعامل مع الزمن الجديد وهل سننتج خيارات "ابداعية" إن صح التعبير .. أم سنبقى وراء الحدث السياسي دون أن يعني الغد أي شيء !!!