تطرح مسألة الانتماء العربي اشكالية تتمثل في علاقتها بمسائل الانتماءات الاخرى مثل الوطنية ، الاسلام، الأممية ، ومسألة الانتماءات القومية الاخرى مثل الكردية والأمازيغية ، وفي العراق يظهر اليوم شكل من أشكال الصراع بين انتماء قومي عربي وانتماء مذهبي- طائفي .

لايمكن في هذا السياق التفصيل في اشكالية العلاقة بين الانتماء العربي والانتماءات الأخرى جميعها ، لكننا مضطرون للتوقف عند مسألتين على الأقل :

الأولى هي علاقة الانتماء العربي بالانتماء الوطني ، والثانية هي علاقة الانتماء العربي بالانتماء الطائفي .

ينحو خط اليسار اللبناني الديمقراطي لايجاد نوع من التوازن بين الانتماء اللبناني الوطني الذي يتجسد في مفهوم الدولة اللبنانية المستقلة ( من أجل وطن كامل الاستقلال ، حيث الوطنية نقيض لكل اشكال الانغلاق والعنصرية ، ورفض للتذويب وطمس الخصوصيات ) وبين الانتماء العربي بما هو انتماء حضاري وثقافي وخيار سياسي واقتصادي .

توازن العلاقة بين انتماءين لا ينفي احدهما الآخر ، أو يسعى للحلول مكانه ، لبنان أصبح انتماء حقيقيا هذا مايجب الاعتراف به ، والعروبة أيضا انتماء حقيقي هذا مالا يمكن إنكاره .

في سورية ظهر الانتماء العربي كنفي للانتماء السوري ، الوطنية السورية عنت النزعة القطرية الموصوفة سلبيا ، العروبة التقليدية تغولت على الوطنية السورية ، هذا التغول كانت له آثار سلبية ، مثلا: أسهم في إهمال مقومات بناء الدولة الحديثة ، دولة الحق والقانون والمؤسسات ، حيث استقرت في الوعي العام فكرة أن الدولة القطرية هي دولة مؤقتة ، ممر للدولة القومية ، وبالتالي من العبث بذل الجهد لبنائها بناء يتصف بالكمال ، والنتيجة أننا لم نحصل لا على الدولة القومية ولا على الدولة القطرية .

الانتماء العربي وفقا لمفهوم اليسار الديمقراطي اللبناني يتعايش ويتكامل مع الانتماء الوطني ولايتصارع معه ، الوطنية اللبنانية وكذا السورية لايجب أن تستثير حفيظة العروبة .

مانشهده اليوم في سورية هو خطر تغول الوطنية على العروبة كرد فعل ، الوطنية السورية تسعى لاعادة الاعتبار لذاتها ، وهذا أمر مفهوم ، غير أن المبالغة في ذلك الى حدود التنكر للانتماء العربي أو تهميشه مسألة أخرى . اليسار الديمقراطي اللبناني استطاع ايجاد توازن بين الانتماءين ، واليسار السوري مدعو أيضا لا يجاد مثل ذلك التوازن .

في العراق اليوم يتصارع الانتماء العربي مع الانتماء الطائفي - المذهبي صراعا يأخذ طابعا مصيريا ، ففي حين تم اختراق الانتماء الوطني العراقي ، وبدا كما لو أن ذلك الانتماء لم يتمكن من الصمود أمام الانتماء القومي الكردي وكذا أمام الانتماء الطائفي-المذهبي ، انتقلت ساحة الصراع لتكون بين الانتماءين العربي والطائفي-المذهبي.

ليس من السهل الحكم على نتيجة ذلك الصراع المحتدم ، لكن ما يفترض أخذه بالاعتبار أن الاحتلال الأمريكي يلقي بكامل ثقله لتحطيم الانتماء العربي في ذلك الصراع ، بينما يظهر الانتماء العربي مقاومة غير عادية ، ولعل مستقبل العراق وربما المنطقة سيتوقف على مسألة أي انتماء سينتصر في العراق .

في لبنان لايجابه الانتماء العربي صراحة الانتماءات المذهبية ، لكنه سيظهر في حال شكل الانتماء الطائفي خطرا على وحدة لبنان ، وهذا مالا يبدو في الأفق حتى الآن .

في عصر تدهور الدول القطرية تبرز أهمية الانتماء العربي في مواجهة عوامل التفكك ، وخاصة الانتماءات الطائفية-المذهبية حيث يمكن لتلك الانتماءات اختراق الرابطة الوطنية غير أنها ستصطدم لاحقا بالرابطة العربية التي تبدو أعمق جذورا .

تحت عنوان ( في ضرورة مشروع نهضوي جديد ) تعيد الوثيقة سبب التعثر في مسيرة التقدم الحضاري الى انتكاستين ، الأولى فشل مشروع النهضة العربية والتنوير الديني أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وبالتالي خنق بذرتي الديمقراطية والاصلاح الديني ، والثانية مآل حركة التحرر الوطني العربية في مرحلة مابعد الاستقلال .

تخرج الوثيقة بنتيجة مفادها ضرورة ان تعيد المجتمعات العربية اطلاق دينامية مجتمعية وثقافية خلاقة ، المهم في هذا السياق هو التنويه بأن قوى اليسار تحديدا مطالبة بأن تكون حاملة لمشروع نهضوي معاصر.

هذه الفكرة التي جاءت في سياق التحليل كوعي ضرورة جنيني تستحق الكثير من التأمل ، قوى اليسار تحديدا اضافة لدور القوى الدينية المتنورة والعلمانية والديمقراطية حسب عبارة الوثيقة .

لكن لماذا قوى اليسار تحديدا ؟

حين يجدد المجتمع نفسه ليتقدم يحتاج الى حامل اجتماعي ، فئات اجتماعية او طبقات ترتبط مصلحتها بحركة تقدم المجتمع ذاته ضمن الظروف الاقتصادية والسياسية المحيطة . العولمة تعيد انتاج الاقتصاد والسياسة والمجتمع ، تعيد فرز القوى الاجتماعية ، وحدها الفئات الاجتماعية التي تدمرها العولمة أو تعيد انتاج فقرها وعبوديتها قادرة على الكفاح من أجل مجتمع وعالم جديدين ، الفئات الأخرى التي تتمفصل مع آليات هيمنة العولمة لن تكون مستعدة سوى للدفاع عن مصالحها الذيلية ، وعيها لوجودها ليس ضد الواقع الفاسد لكن من أجل ضرورات اعادة تكييفه مع النظام العالمي الجديد ، هكذا يمنعها تماهيها مع آليات الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية للعولمة من رؤية البديل ، البديل لديها هو الالتحاق ، التبعية ، في الاقتصاد والسياسة والفكر .

في سورية وعلى امتداد الخمسينات من القرن العشرين كان المجتمع السوري يغلي بصراعات متعددة في ظروف اقليمية ودولية بالغة التعقيد ، بينما الطبقة السياسية التي تمثل القوى الاجتماعية التقليدية تزداد ضعفا واهتراء ، مما أفسح المجال أمام اندفاع فئات اجتماعية جديدة صاعدة مثلت تحالفا يضم الطبقات الوسطى بمثقفيها مع الفلاحين وفقراء المدن ، تلك القوى الاجتماعية غدت الحامل الاجتماعي المنوط به تقدم المجتمع ككل والبديل عن القوى التقليدية ، وسواء نجحت تلك القوى أم لا فصعودها لم يتم سوى بسبب أزمة عامة وجدت تعبيرها بوصول القوى الاجتماعية التقليدية الى حالة عجز وتفكك شاملين .

حين نفكر اليوم في طبيعة القوى الاجتماعية المؤهلة للعب دور رئيسي في اطلاق ديناميكية نهوض اجتماعي لابد أن نأخذ بالاعتبار طبيعة المرحلة والمعطيات الاقتصادية والسياسية العالمية والاقليمية والداخلية وكذلك التجربة التاريخية .

لكن ذلك لايصلح ليكون مصادرة ايديولوجية ، القوى الاجتماعية الأخرى لايمكن شطب دورها بجرة قلم ، ظاهرة رياض سيف في سورية تستحق التأمل والدراسة ، ليست البورجوازية سلبية وفق تعميم مطلق ، كما ان فكرة الحامل الاجتماعي ليست تقريرا أو يقينا ، هي مجرد استنتاج ، استنتاج يرسم مؤشرا لامكانية سوف يؤكدها الواقع ، أو ربما ينفيها أو يعدلها ، مع ذلك فنحن بحاجة الى هذه الفكرة ، على الأقل كيلا نسترسل في تعليق الأوهام على فئات اجتماعية استهلكها التاريخ ، ونهمل أخرى تحمل امكانية قيادة التغيير ، وهذا لايشابه في شيء الحتميات التاريخية .

اليسار الديمقراطي لا ينظر لعودة البورجوازية التي ستبعث روح النهضة من جديد في المجتمع على طريقة الامام الغائب كما يفعل اليسار الليبرالي، لكنه لايتبنى منها موقفا سلبيا مسبقا .

في المسألة الطائفية واجهت الوثيقة انحرافين فكريين في مقاربة الطائفية :

الأول : يكمن في المبالغة في أهمية موقع الطائفية في لبنان وحاضره ومستقبله ( كما في الفكر اليميني الطائفي ) ، أو اعتبار الطائفية في المقابل علة العلل في النظام بحيث يصبح التخلص منها هو الحل الشافي لكل مشكلات لبنان ( كما في بعض مبالغات الخطاب اليساري أو القومي أو الشعبوي )

الثاني : يتمثل في اجتزاء الظاهرة الطائفية عن باقي مكونات عملية الاصلاح السياسي .

يميز اليسار الديمقراطي بين الغاء الطائفية السياسية ( ولو بالتدريج ) وذلك ممكن نظريا على الأقل ، وبين الغاء الطائفية في الواقع كوعي وسلوك وتشكل اجتماعي ، هكذا تعتبر نظرة اليسار الديمقراطي خطوة متقدمة عقلانيا في الاعتراف بالطائفية كتشكل اجتماعي ، وادراك ان مسألة الاندماج الاجتماعي لايمكن حلها بقرار أو بشعار ، الاندماج الاجتماعي هو مسيرة تاريخية – اجتماعية ، لكن ما يمكن ويجب عمله هو الغاء الطائفية السياسية ، وهذا مرتبط بمسار الاصلاح السياسي بما في ذلك النظام الانتخابي ، وأيضا بتعزيز مفهوم المواطنة والمؤسسات المدنية الطابع ، تجاوز الطائفية لايمكن ان يحصل تلقائيا ، ويتطلب الأمر جهودا منسقة لليسار الديمقراطي ولكل القوى الوطنية غير الطائفية .

التعدد الطائفي ليس عيبا نخجل من اظهاره ، هو واقع اجتماعي – تاريخي ، لكن المسألة تكمن في ضرورة الوقوف ضد محاولات النفخ بذلك التعدد واستغلاله سياسيا لأهداف لاتتصف بالبراءة، وأيضا محاولة تشريعه وقوننته وفق أطر سياسية .

تتقاطع آليات الهيمنة الأمريكية على المنطقة مع ضرورات تفكيك البنى الاجتماعية ، وما نشهده هو اعادة انبعاث الروح الطائفية بتأثير من احتلال العراق والسعي لاتخاذه مرتكزا للسيطرة وبالتالي الشروع بتفكيك بنيته الاجتماعية ، اليسار اللبناني يدرك هذ ه الاشكالية بحكم موقعه ضمن سيطرة النظام اللبناني الطائفي .

أخيرا لقد ثبت أن اليسار الديمقراطي اللبناني رغم طروحاته السلمية الديمقراطية يشكل خطرا جديا على القوى التي يتمحور فعلها في اتجاه تعميق الطائفية واستغلالها سياسيا في لبنان ، وذلك مؤشر لكونه لم يعد يعمل على هامش المجتمع بل في قلبه ، وكونه تيارا محدودا لايعني أنه ليس فعالا وذلك ما أظهرته أحداث السنة الأخيرة .

بالمقارنة مع تيارات اليسار في سورية ، يبدو اليسار الديمقراطي اللبناني أكثر وضوحا وشفافية وانسجاما ، كما يبدو أكثر واقعية ، وتغوص تحليلاته في المجتمع اللبناني على نحو أكثر عمقا ، كما يتضح الترابط في تحليلاته السياسية – الاقتصادية بين العالمية والعربية والمحلية ، وتتسم مواقفه بروح مبدئية تبعث على الاحترام ، أما لغته فتمتاز عن لغة اليسار السوري ببساطتها ، وابتعادها عن التثاقف وعرض العضلات الفلسفية الذي يخفي وراءه نزعة نخبوية تسعى لإرضاء الذات قبل أي شيء آخر.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)