عاد الإخوان المسلمون مجدداً إلى دائرة الضوء، من خلال الحرب الإعلامية بينهم وبين السلطة، ومن خلال ما لمسناه من تعاطف (بنسبة قد تزيد أو تنقص) مع حقهم في العمل السياسي على الساحة السورية، وهذا ما ترجمته مقالات اتسمت بالعقلانية والموضوعية كتبها كتاب علمانيون. وقد تكون هذه مفارقة، لكنها ايجابية، من المفيد والضروري أن تتعزز في سوريا، مجتمعا وثقافة.

من الصعب على أحد، في حال توخى الإنصاف، أن ينكر على الإخوان خطابهم السياسي المعتدل راهناً، ولا مبالغة في حال قلنا إنه يتقدم، في بعض جوانبه، على الخطاب السياسي للسلطة الذي يعبر عن أزمة مفتوحة على المدى المنظور، مع الأخذ في عين الاعتبار الظروف الموضوعية المنتجة لكلا الخطابين. وقد أبدى الإخوان أكثر من مرة وجهة نظرهم في ما يتعلق بالداخل السوري، وكانت حصيلة رؤيتهم برنامجاً وجد من يؤيده كما وجد من يعارضه كلاً أو بعضاً، وكذلك كان له من ينتقده نقداً علمياً وموضوعيا. ورغم تأكيدهم في كل مناسبة نبذ العنف وقبول التعايش المشترك وتداول السلطة بشكل سلمي في ظل قانون ينظم التداولية وقضاء نزيه ومستقل، فإن السلطة ظلت تعتبرهم خطاً أحمر لأسباب لا تقنع عاقلاً، لا بل إنها ترفض مجرد الحوار معهم، رغم ما بدر منهم من حسن تصرف وإحساس بالمسؤولية الوطنية، مثل ذلك، رفضهم القاطع للدبابة الأميركية وتأكيدهم عدم الاستقواء على الوطن بالخارج.

ولعله من المفيد القول في هذا السياق إني علمت أن الإخوان من كان وراء إفشال مؤتمر المعارضة السورية المتأمركة قبل شهر ونيف في واشنطن. وبقدر ما يبدونه من ضروب الوطنية بقدر ما يصرّ النظام على محاسبتهم لما في الصدور(؟!) أو النوايا، حسب تعبير الكاتب حسين العودات، علماً بأن لا عقوبة تفرض بحق متهم أياً كانت تهمته تفوق ما نص عليه القانون البربري (حسب وصف د. برهان غليون) 49 الذي يقضي بالإعدام لكل منتسب لهذه الجماعة! ومع ذلك يعلنون على الملأ أنهم ضد الخارج. قبالة ذلك صرّح مسؤولون سوريون رفيعو المستوى، منذ وقت قريب، أن الإخوان يتغازلون مع الأميركيين. طبعاً من غير تقديم دليل، كالعادة.

من الواجب، قبل أن ندلي بمآخذنا على الإخوان، أن نذكر ونذكّر بأن حزب الإخوان المسلمين في سوريا هو حزب، شأنه شأن الحزب الشيوعي السوري وحزب البعث، لم يمارس العنف (الاغتيال السياسي) إبان فترة الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كان العنف يصول ويجول في ثقافة ووعي بعض الأحزاب القومية والعلمانية. فهل هناك من يستطيع إنكار ممارسة الحزب السوري القومي الاجتماعي للعنف؟ أوَليس هو المتهم بمقتل عدنان المالكي؟ وهل هناك من يستطيع أن ينفي أن المرحوم أكرم الحوراني (الاشتراكي الاشتراكي البعثي لاحقاً) كان <<دينمو>> الانقلابات التي عادة ما كانت تتسم بالعنف؟ وأليس الراحل عبد الغني قنوت (احد قياديي الجبهة <<العتيدة>> في عهد الرئيس حافظ الأسد) متهم بقتل العقيد محمد ناصر عام 1950؟ وتوفي ولم يحاكم؟ وأليس الناصري (لاحقاً) عبد الحميد السراج من رتب تصفية الضابط القومي السوري الاجتماعي غسان جديد في بيروت أواخر خمسينيات القرن الماضي، كما تولى سامي جمعة، أحد جلادي سوريا في تلك الحقبة، ترتيب اغتيال القائد الشيوعي فرج الله الحلو في حزيران 1959؟

وقبل أن نتخطى مرحلة الخمسينيات، يمكننا أن نتساءل: ألم يرد في دستور حزب البعث ذاته انه حركة انقلابية؟ وإذا خطونا نحو عقد الستينيات نستطيع التساؤل: ترى هل كانت حركة 18 تموز 1963 التي قام بها الناصريون برداً وسلاماً على السوريين؟ وهل كانت الانقلابات التي قادها البعث ضد رفاقه، قبل خصومه، خالية من العنف؟ هل ثمة من داع لتذكير البعثيين بانقلاب 23 شباط 1966؟ وهل كان البعثيون، سلوكاً وممارسة بعد 1970، ملائكة رحمة أثناء تعاملهم مع ضحاياهم من السوريين وغير السوريين؟ ثم ماذا عن سجن البعث للآلاف من السوريين؟ منهم من امتد سجنه عقوداً ثلاثة مع تعذيب (أو من دون تعذيب)، ومنهم من قضى نحبه وهو في السجون! هل تصرفات البعث هذه كانت بعيدة عن العنف أم أنها صنو العنف؟ ثم بماذا يفسر لنا البعثيون إلغاءهم للمجتمع واختصاره بشخص بعون من القانون الدائم للبلاد (الطوارئ)؟

نستطيع إيراد عشرات الأمثلة على ممارسة معظم الأحزاب المكونة للخريطة السياسية في سوريا اليوم للعنف، في وقت بالكاد نستطيع اخذ ممسك للإخوان في تلك الفترة من الزمن! ربما هذا الكلام لا يسر الكثيرين! لكن رغم ذلك تفرض الأمانة أن نلفت الانتباه الى أن الاغتيالات سابقة الذكر لم تكن تتم من منظور طائفي، إنما في إطار الصراع على السلطة، وهي آليات وصول سلطوي أفرزتها الثقافة السياسية السائدة في تلك المرحلة، في حين اتسمّ عنف الإخوان في حقبة الثمانينيات كما يرى الباحث محمد كامل الخطيب أن تحوّل من معارضة سياسية إلى معارضة طائفية محض، وبرأيه هذا أكبر خطأ ارتكبه الإخوان كحزب سياسي.

الآن من الصعب على المراقب أن يدرك كنه دوافع السلطة اليوم وأسبابها في عدم تصديقها خطاب الإخوان، ورفضها لهم بالمطلق، متجاهلة أن مرحلة الخمسينيات والأربعينيات من القرن الماضي تشكل جزءاً من تاريخ الإخوان! فلماذا النظر إليهم من منظار الثمانينيات فقط؟ وهي بطبيعة الحال مرحلة من الإجحاف تحميل مسبباتها ونتائجها لهم وحدهم، علماً بأن الإخوان لا يتركون مناسبة من غير أن يميزوا أنفسهم عن الطليعة المقاتلة التي حملت لواء <<الجهاد>>، وتفاصيل كهذه شخصياً أجهلها بحكم نقص المعلومات، بشكل عام، عن تلك المرحلة.

قد يخشى البعض من أسلمة الدولة المؤسلمة دستورياً بعد استلام الرئيس حافظ الأسد وبالتالي فرض نمط ثقافي معين على ما بقي من مكونات الشعب السوري المختلفة والمتباينة، لكن يغفل ذلك البعض أنه سبق للمرحوم مصطفى السباعي أن تقدم بمشروع إلى البرلمان السوري، وقد كان نائباً له، فحواه أسلمة الدولة، وفشل المشروع أثناء عرضه على المجلس النيابي، ورضي السباعي بنتيجة التصويت بكل طيبة خاطر؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ترى ما الفرق بين قانون أسلمة الدولة وبعثنتها؟ اللهم، سوى أن الأول خضع للبرلمان وأقرّ بحكمه (في ما مضى)، في حين ان الثاني فرض نفسه على الدولة والمجتمع بموجب المادة الثامنة من الدستور.

وان تجاهلنا شيئاً من تاريخ الإخوان فلن نستطيع تجاهل كتاب <<الاشتراكية في الإسلام>> للمرشد العام الأسبق لهم مصطفى السباعي وكذلك كتاب <<الأمة العربية>> لنائبه المرحوم محمد المبارك، بمعزل عن السياق التاريخي الذي جاء فيه ذانك الكتابان.

وإن كنت كالكثيرين غيري أجد مبرراً معقولاً لتعاطفي مع الإخوان سياسياً واجتماعياً وأتبنى وجهة النظر القائلة بحقهم بالعمل في الحقل السياسي، إلا أن السؤال الذي يطرق باب العقل مباشرة هو أن حزب الإخوان حزب طائفي بامتياز، وهذا ما لا يستطيع إنكاره أحد. وبهذا المعنى، والحال هذه، فمن حق الأقليات العرقية والدينية الأخرى أن تعبّر عن ذاتها بأحزاب تعود بنا إلى ما قبل السياسة المدنية وإلى ما قبل المجتمعية والمجتمع المدني (كما جاء في بلاد أخرى للخطيب)، وبإمكاننا آنذاك أن نتصور الصورة السياسية لسوريا القرن الحادي والعشرين(؟!) هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أعتقد أن ثمة مبالغة في معارضة الإخوان للنظام البعثي القائم، وآية ذلك زعمهم أنهم ضد الاستبداد الذي اكتوى منه المجتمع السوري دون استثناء، في الوقت الذي نرى فيه أن الاستبداد يجد شرعيته في التراث الإسلامي الذي هو المعول الفكري والنظري للإخوان (لن أدخل الآن في تفاصيل ذلك كي لا أجنح من السياسة إلى الفقه)، هذا فضلاً عن أن كلمة إسلام فضفاضة! فنهر الإسلام عمره أكثر من أربعة عشر قرنا، ولدينا إسلام معاوية بن أبي سفيان وإسلام أبي ذر الغفاري، وإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي وإسلام عمر بن عبد العزيز كذلك. وفي حال نظرنا في تاريخ الصحابة، فإننا مع الآسف لن نجدهم ملائكة لا تأخذهم في الله لومة لائم، فكم من صحابي جليل أثرى على حساب جموع المسلمين؟ هل ينبغي علينا أن نذكّر بالصحابة الذين أثروا ثراء فاحشاً في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ ألم يهادن عبد الملك بن مروان (خليفة المسلمين) الروم (الكفار) دافعاً لهم 1000 دينار أسبوعيا ليؤمّن الشام وليتفرغ بعدها لقتال ابن الزبير (المسلم)؟ وهلم جراً. فأي إسلام يقصدون ويريدون؟ ناهيك بقضية المذاهب وتشعبها وابتعاد مضامينها عن معطيات الواقع والمنجزات العلمية وما تفرزه ثورة المعلومات على مدار الساعة.

قد تكون مآخذ الإخوان على النظام هي ذاتها المآخذ التي تراها جلّ المعارضة السورية والشارع، لكنهم ينسون، أو يتناسون،أن مبتدع الوراثة هو معاوية بن أبي سفيان، وليس الحكام العرب المعاصرون سوى تلامذة أوفياء لمدرسة معاوية في أصول الحكم! انطلاقا من هنا نجد أن البعث لم يأت في أفعاله ببدع من خياله، ولم يخترع ما هو غير كائن في البنية الفكرية للإخوان، فقد كان بعثاً حقاً في اسمه وفعله، فهو لم يفعل سوى إعادة <<الاعتبار>> لتاريخ الأمة وبعثه ل<<مجدها>> القائم على الاستبداد ليس أكثر! أليس ذاك <<المجد>> ما ترنو إليه أنظار الإخوان؟ فعلام غضبهم وعتبهم ومعارضتهم؟
لا تكمن أزمة الإخوان في راهن خطابهم المتمدن (ظاهراً على الأقل) والذي لا أشك في صدقه، إنما في بنيتهم المعرفية ومرجعيتهم التي استعصت على التجديد، وهي بنية حاربت وما تزال كل مجدد، وهذه الأزمة عبّرت عن نفسها سلطوياً وسياسياً عبر التاريخ في التسلسل الهرمي للخلافة الإسلامية بنظامها الوراثي بدءاً من الخلافة الأموية مروراً بالخلافة العباسية وانتهاء بالعثمانية. والآن أليست حالة النوستاليجيا التي تكتسح الشارع الإسلامي هي في أحد مظاهرها عجز الواقع، ومن ضمنه الفكر الإسلامي، عن تقديم البديل الموضوعي المناسب، تماماً كعجز البعث عن إيجاد حلول للواقع؟

ينادي الإخوان بالديموقراطية التي يقولون إنها موجودة في الإسلام، وهم يتكئون في هذا على مبدأ الشورى، مع العلم بأن الشورى مصطلح لا علاقة له بالديموقراطية، فهي ليست نظام حكم (على رأي احمد البغدادي) قدر ما هي أسلوب حياة لمجتمع بسيط، ناهيك بأنها ليست ابتكاراً إسلاميا بدليل أنها كانت موجودة قبل الإسلام دار الندوة مثالا التي أقامها قصي بن كلاب وبمعزل عن هذا كيف تتلاقى الديموقراطية ومصطلح أهل الذمة الإسلامي الذي لا شبيه له سوى نقي العظام الخاص بالبعثيين والذي يميزهم عن سواهم من السوريين، كما ذكر ذات مرة ميشيل كيلو؟

حقيقة أن الثقافة التي أنتجت الخطاب البعثي هي ذاتها الثقافة التي أنتجت الخطاب الإسلامي (بشكل عام)، وهي الثقافة ذاتها التي تنهل من ينابيعها جلّ القوى السياسية المتواجدة على الساحة السورية اليوم (معارضة وموالاة). ولا شك في أنها ثقافة أثبتت عقمها، فهي ثقافة الهزيمة والاستبداد بامتياز، وليس من بديل لهذه الثقافة التي ما تفتأ تعيد إنتاج نفسها إلا بإعادة الاعتبار للعقل القادر على نقدها، وبالتالي امكان إنتاج ثقافة جديدة مضادة لها، تصوغ وعياً جديداً لجيل جديد ينتج عقداً اجتماعياً (جديداً) لا يكون ثمة مجال للرجعة عنه بفعل من كثافة ثقافة الاستبداد المترسبة في وجداننا ووعينا منذ قرون.

لكن بالنظر إلى الراهن السوري اليوم، بما فيه من علاقات مجتمعية مأزومة يزيد منها تصدير السلطة لأزمتها إلى المجتمع بين حين وآخر، ما ساهم في إيجاد المزيد من الاحتقانات، التي عبّرت عن نفسها بأشكال عدة منذ فترة، أصبح وجود الإخوان ضرورة، لا بد منها، للمجتمع السوري ككل. فوجود الإخوان يساهم في فقء الدملة ومص الاحتقان بشكل قد يجنب المجتمع السوري الكثير من المراحل التي هو بغنى عنها. وإن كان هذا لا يعني من وجهة نظرنا أن الإخوان هم قدَر سوريا كما كان البعث غلطة وقى الله السوريين عقابيلها.

مصادر
السفير (لبنان)