أكبر خطأ آخر سيرتكبه الأميركيون حتماً هو ان يفكروا، حتى مجرد التفكير، بالانتقال بالتجربة العراقية المُرَّة والكئيبة الى سورية، فهذا سيعني ـ إن هو حصل ـ أنهم سيغرقون في رمال هذه المنطقة حتى أعناقهم وان الانتصارات التي توخوها عندما وضعوا مخططات غزو العراق ستصبح هزائم منكرة، وان جبهة العنف و«الإرهاب»، التي سيصبح عليهم خوض غمار حرب مرهقة ومكلفة معها، ستمتد من مَشْهَد في خراسان وحتى الناقورة في الجنوب اللبناني.

والمفترض أنه على الأميركيين، قبل ان يفكروا بخطوة تجاه سورية، ان يراجعوا تجربة غزوهم للعراق جيداً وان يستنبطوا من هذه التجربة الدروس والعبر، فأخطاؤهم في العراق لا تحصى ولا تعد، وهي أخطاء لا تزال متواصلة ومستمرة، والدليل على ذلك أنهم يواصلون لعب أوراقهم وتحريك بيادقهم بالطريقة نفسها، وبالأساليب إياها التي اتبعوها منذ اللحظة التي وطأت أقدام قواتهم والقوات الحليفة لقواتهم قبل عامين ونصف العام الأراضي العراقية.

لقد كان تحميل الدبابات الزاحفة نحو بغداد بالميليشيات المذهبية المنتفخة حقداً والقادمة وهي ترفع بيارق الثأر أول الأخطاء وأكبرها وأخطرها، ثم بعد ذلك «كرَّت السبحة» فجرى حل الجيش العراقي وقوات الأمن وقوات الشرطة، وجرى تسريح عشرات الألوف من الموظفين، ثم جرى حل الدولة كلها فحَدَثَ ما حَدَث، وأصبحت الاوضاع العراقية على هذه الحالة الراهنة الآن ثم غدا الإرهاب، الذي تعددت منابعه وتكاثرت أشكاله وأنواعه، ككرة الثلج التي تبدأ عند قمة الجبل بحجم بطيخة صغيرة، ثم تنتهي عند أسفله بحجم الكرة الأرضية!!.

لم يتعلم الأميركيون من تجارب غيرهم، وثبت أنهم لم يقرأوا تاريخ هذه المنطقة جيداً، وأنهم إن كانوا قرأوه فإنهم لم يفهموه.. إنهم جاءوا بنظريات وخرائط حملها بريمر معه الى بغداد وحاول تطبيقها بطريقة أفلام «جيمس بوند» و«أرسين لوبين»، وكانت النتيجة كنتيجة محاولة زرع البرتقال او النخيل في القطب الشمالي وكمحاولة من أراد تحويل الـ «أكواريوم» الصغير من بيئة لتربية أسماك الزينة، الى بحر ظلمات لا حدود لشواطئه تعيش فيه أسماك القرش والحيتان القاتلة.

إن كل ما يجري في العراق من خيبات ونكبات وإخفاقات هو من صنع أيدي الأميركيين. فمسألة الفيدرالية، التي هي فكرة جميلة وصيغة متقدمة وراقية، تحولت الى شوكة في حلق العراق الطافح بالألم والمرارة، لأن طرحها كان فجاً، ولأن البدء بتطبيقها والتعاطي معها كان خاطئاً، ولأن «المندوب السامي» بريمر، بادر الى وضع العربة امام الحصان، عندما حوَّل المحافظات العراقية الى دويلات لا علاقة لكل محافظة منها بالأخرى، وأيضاً لا علاقة لكل منها بالعاصمة وبالمركز.

كان المفترض ألا توضع العربة أمام الحصان، وألا يجري القفز ببلد مطحون ومنكوب ومدمر بُنياناً ونفسياً من ديكتاتورية أسوأ من ديكتاتوريات العصور الوسطى الى الفوضى والديمقراطية المشوشة، والى إطلاق يد الميليشيات الوافدة من الخارج، والمتضورة جوعاً للحكم وللثأر وللجاه والمال، والانتقال بالبلاد من تجربة فاشلة الى تجربة فاشلة أخرى.. وهكذا فقد انتهى الأمر بأن وجد الإرهابيون والمرتزقة حاضنة شعبية إن هي لم تحتضن أفعالهم وجرائمهم، فإنها تحتضن مبرراتهم والمظالم التي يبررون بها هذه المذابح والجرائم وهذا الإرهاب الأسود.

الآن وبعد ان انتهت التحقيقات في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الى ما انتهت إليه، بدأت الأضواء تُسلَّط أكثر وأكثر على سورية، وهنا فإن لعل الخطأ الفادح الذي قد يرتكبه الاميركيون هو ان يجدوا في هذا التطور فرصة للهروب الى الأمام، بهدف الهروب من أزمتهم الخانقة في العراق وان يضيفوا الى تجربتهم العراقية تجربة سورية.

إن المفترض ان الأميركيين سمعوا وقرأوا التصريحات التي أطلقها قبل أيام الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد، الذي جاء به الى هذا الموقع الاتجاه الأكثر تشدداً في إيران وعلى رأسه «مرشد الثورة» علي خأمنئي.. هذه التصريحات التي دعا فيها الى إقامة جبهة مواجهة تضم إيران والعراق وسورية ولبنان.. وهذا كلام لم يقله هذا الشاب المقاتل من قبيل الاتجار بالكلام، إنما قاله وهو يعنيه وهذا بالضبط هو المقصود بالهلال السياسي الإيراني الذي جرى التحذير منه أخيراً في أكثر مناسبة ومن قبل أكثر من مسؤول عربي.

وعلى هذا الصعيد، فإن المؤكد ان الاميركيين يعرفون ان النيران التي تحترق بها أصابعهم وقلوبهم في العراق الآن ليست نيران أبي مصعب الزرقاوي وحده، ولا نيران جيش النظام السابق الذي جرى تسريحه، إما من قبيل الغباء أو من قبيل الاستجابة لخطة تآمرية، إنما أيضاً.. وايضاً نيران الحرس الثوري الإيراني ونيران أجهزة المخابرات الإيرانية التي خططت منذ البداية ومعها أجهزة مخابرات بعض الدول المجاورة لإغراق هذه الخطوة الاميركية في المستنقعات العراقية، وها هي تغرق فعلاً في المستنقعات وفي الرمال العراقية.

على الاميركيين ان يأخذوا الحكمة مما قاله حلفاؤهم الإسرائيليون فـ «حكماء» هؤلاء ومخططوهم قالوا أخيرا وكرروا القول، بأنهم، رغم رغبتهم العارمة في إزاحة النظام السوري الذي يعتبرونه يمثل آخر قلاع الحرب الباردة، لا يريدون ان يكون البديل للحكم الحالي في دمشق نسخة منقحة من «طالبان» ونظاماً دينياً مذهبياً سيحول البلاد، مهما أبدى من نوايا حسنة في البدايات، الى حاضنة جديدة للقوى المتطرفة و«الإرهابية»!!.

لو ان الاميركيين أهملوا تقارير الذين نصحوهم ولم يفعلوا ما فعلوه، ولو أنهم لم يطلقوا يد مندوبهم السامي بريمر في العراق، فإن المؤكد ان أوضاعهم ليست هي هذه الاوضاع المزرية. ولهذا فإن المؤكد أنهم سيرتكبون حماقة قاتلة اخرى إذا كانوا يفكرون بتكرار التجربة نفسها في سورية. ثم وبالمقدار نفسه فإن دمشق سترتكب خطأً قاتلاً إن هي كرَّرت تجربة صدام حسين ونظامه، وإن هي لم تغير سياسة وأساليب ما قبل سقوط حائط برلين.. والمؤكد ان القيادة السورية، التي كانت زمن الرئيس الراحل حافظ الاسد، معروفة ومشهورة بدقة الحسابات، تعرف ان نتائج تحقيقات لجنة التحقيق باغتيال الحريري فتحت أبواب الرياح الساخنة والباردة عليها، وأنها إن لم تتصرف بحكمة وحنكة فإنها ستؤكد صحة ذلك المثل القائل: «أُكلت يوم أكل الثور الأبيض!!».

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)