تعمم أوساط لجنة التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري رواية لما جرى تخطيطا وتنفيذا ومحاولة لطمس الأدلة. ويمكن القول، اليوم، ان الطبقة السياسية اللبنانية باتت على علم بهذه الرواية، وكذلك وضع القادة الروحيين في جوها. وإذا كان القضاء اللبناني الذي اصدر مذكرات توقيف وجاهية بأربعة من أركان النظام الأمني السابق (بينهم قائد الحرس الجمهوري) على غير اطلاع كاف على الوثائق وإفادات الشهود والمستندات.

فان ذلك لا يمنع أن الجو الشائع في بيروت يجعل اللبنانيين يعيشون في رحلة ما بعد القرار الظني وما قبل المحاكمة التي تتجه إلى أن تكون دولية.تقول هذه الرواية، والعهدة على الراوي، ان قرار الاغتيال اتخذ على مستوى سياسي عال في دمشق وبيروت وان مسؤولين كبارا في الجهاز الأمني والعسكري كلفوا بالتنفيذ مجتمعين وقد فعلوا ذلك.

لا يجرؤ احد على الحسم بأن «الحقيقة» بانت. ولكن الواضح أن هناك من يمحض القاضي ديتليف ميليس ثقة عالية. وبالرغم من ذلك يمكن لأي كان أن يستمع، في بيروت، إلى عشرات الروايات المخالفة، والى حجج تحاول التشكيك في صحة بنيان ما هو منسوب إلى التحقيق الدولي.

ولكن على افتراض أن مجلس الأمن اعتمد السرد المعمم فسيكون صعبا جدا أن يبقى النظامان السياسيان في سوريا ولبنان بمنأى عن تلقي الآثار المدوية لمثل هذا الاتهام حتى لو أن قمة الهرم، في البلدين، بقيت محيدة.لا احد يستطيع تقدير التفاعل السوري مع الحدث سواء في مرحلة التعاون مع ميليس وشكله أم في مرحلة انتقال الرجل إلى تعيين مشتبه فيهم تحددهم اسميا الشائعات السائدة في بيروت. ولكن في المقابل، يمكن إلى حد ما، تحديد ما سيكون مطروحا في لبنان بعد اكتمال التحقيق، أي بعد أسابيع قليلة.

وليس سرا أن الشعار الذي سيسود ليس اقل من المطالبة الملحة باستقالة رئيس الجمهورية إميل لحود. لقد سبق لهذا الشعار أن ارتفع منذ شهور عديدة. لا بل إن قوى رفضت التمديد أصرت على دفع الرئيس إلى مغادرة قصره وذلك قبل اغتيال الحريري. ولقد سارع البعض، بعد ذلك، إلى تجديد مطلبهم، ولكن المفارقة هذه الأيام، أن نوعا من التوافق ينشأ حول ضرورة تأجيل هذا الاستحقاق إلى ما بعد صدور التقرير.

ويمكن القول حاليا ان تقاربا يحصل بين الأطراف السياسية اللبنانية حول أمرين: الأول هو أن أي إدانة مباشرة للرئيس، أو أي تجريم للفريق الأمني اللصيق به سيجعل استمراره في موقعه صعبا جدا بل مستحيلا، الثاني، وفي استطراد ذلك، هو أن تقاربا آخر يحصل بين القوى السياسية هو الآلية التي يجب اعتمادها من اجل اختيار بديل.

ولعل الدليل على الأمر الثاني هو أن زعيما مثل وليد جنبلاط كان سبق له أن اقترح آلية محددة تضعف المساهمة المسيحية عاد، بعد لقاء له مع الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله، إلى اقتراح آلية أخرى تعطي الجهات «ذات الشأن» الحق في الاختيار. والمقصود هنا بـ «الجهات المعنية» البيئة المسيحية. ولقد كان لافتا أن بيان مجلس المطارنة الموارنة الذي صدر عقب هذه «الانعطافة» تجنب تقديم أي غطاء للحود في حال وقع المقدور.

إن حصيلة اللقاءات الأخيرة سواء في باريس أو في بيروت تشير إلى اعتماد معادلة من مستويين:

ـ للجانب المسيحي الحق في اقتراح لائحة تضم بضعة أسماء.

ـ للجانب الإسلامي أن يختار واحدا من بينها.

يمكن القول، والحالة هذه، أن تقدما كبيرا طرأ، ولكن، في الوقت نفسه، يصعب الادعاء بأن المشاكل باتت وراء اللبنانيين.

ثمة أربعة أنواع من المشاكل ينبغي تذليلها في حال برزت:

أولا ـ ثمة احتمال كبير بأن يؤدي احتدام الصراع حول الرئاسة وما إذا كان يفترض بلحود الرحيل أو لا إلى توتير أمني يتجاوز حدود المحتمل، إذا حصل ذلك فانه قد يغير المعطيات ويدخل البلاد في وجهة أخرى. وفي المقابل إذا أمكن تجنب تحويل الاحتدام السياسي إلى توتير أمني شديد الإيذاء فسنكون أمام وضع يمكن القول معه بأن المعركة السياسية قابلة للإدارة. لقد سبق وحصلت انتخابات رئاسية في لبنان في ظل تنافس شديد.

ثانيا ـ إن البيئة المسيحية التي يفترض فيها أن تقترح هي بيئة متعددة. صحيح أن «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون يملك وزنا راجحا ضمنها ولكن ذلك لا يلغي اصواتا أخرى مثل الكنيسة و«القوات اللبنانية» و«بقايا» لقاء قرنة شهوان. إن المشكلة المرشحة للبروز، في هذا المجال،

هو أن يصر عون على انه وحده ولا احد سواه المرشح للرئاسة وذلك استطرادا لتقليد شرع يترسخ أكثر فأكثر ويقضي بان تختار كل طائفة ممثلها في السلطة العليا، ليس الاحتمال مستبعدا وان كان يمكن الرهان على أن عون يدرك انه لا يملك أكثرية نيابية وانه لم يتمتع بالوقت الكافي لتثبيت «مقبوليته» لدى الآخرين.

ثالثا ـ إن البيئة الإسلامية التي يفترض فيها أن تختار، هي بدورها متعددة، ليس ضروريا أن يتلاقى تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري مع المزاج الذي يعبر عنه التحالف الشيعي بين «أمل» و«حزب الله» وليس مستبعدا، أيضا، أن يجد وليد جنبلاط نفسه في موقع المضطر إلى قدر من التمايز حتى مع اقرب الحلفاء إليه.

رابعا ـ إضافة إلى ما سبق ثمة ضرورات خارجية يستحيل تجاهلها في بلد مثل لبنان وفي هذه المرحلة بالضبط ليس في الوارد، مثلا، الإتيان برئيس استفزازي لسوريا وللعلاقات اللبنانية معها وذلك بغض النظر عن النظام في دمشق. إلى ذلك لا يبدو ممكنا وصول رئيس يثير غضب دول الوصاية الجديدة

أي الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا تحديدا مع الميل إلى القول بأن الثانية بين الدولتين تبدو أكثر اهتماما بمتابعة تفاصيل الوضع اللبناني وما يتجاوز التفاصيل أيضا. إن هذه العقبات موضوعية، يمكن أن نضيف إليها غيرها، وهي لا تبدو عقبات تنتظر التقرير لتطل برأسها وليس مستبعدا أن تسيطر على الحياة العامة بمجرد صدور التقرير واكتشاف انه قريب من الرواية المعممة في بيروت.

هذا عن لبنان، أما عن سوريا فالمجهول أكثر بما لا يقاس من المعلوم، لا بل يتساءل المرء ما إذا كان ثمة ما هو معلوم. إن الاحتمالات كلها واردة من تسوية اللحظة الأخيرة بتنازلات سورية ملموسة إلى المواجهة المفتوحة.ويمكن، بسهولة، أن نضيف هذا «المجهول» السوري إلى «العقبات» اللبنانية المشار إليها، لا بل ليس هناك ما يمنع من أن يكون هذا الغموض في طليعة هذه العقبات.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)