في العقد الأول من حكمه، نجح الرئيس حافظ الأسد في بناء نظام ممانع للتغيير، استطاع البقاء ثلاثة عقود، متجاوزا تهديدات داخلية وإقليمية ليست هينة. لكنه دفع مقابل ذلك انغلاقا مضطردا وافتقارا لآليات تغيير ذاتية.

فتثبته على هاجس البقاء دفع النظام إلى تطوير حساسيته حيال مصادر الخطر المحتملة: كان يسحقها ما استطاع (كل ما اعتبره مخاطر داخلية)، ويتكيف معها حيث لا مناص (المخاطر الخارجية)، لكنه كان كتيما حيال تجديد دمائه وترقية قدرته على التلاؤم. لقد بنى مؤسس النظام آلة حكم متينة، لكن ليس صناعة حكم متكاملة. إنه مثل صاحب الحرفة الماهر الذي يتقن عمله، لكنه يأخذ أسرار حرفته معه.

وليس إلا طبيعيا أن الاهتمام بانفتاح النظام كان محدودا بالنظر إلى أن الرهان الذي تطلع إليه، وفاز به، هو البقاء في السلطة «إلى الأبد»، كما كان يتردد ثلاثا كل يوم على ألسنة تلاميذ المدارس السورية. ولم يكن من المفاجئ أن يكون مفهوم النظام للبقاء سكونيا وليس ديناميا، منشغلا بإقصاء وضرب أي منافس داخلي محتمل لا باستيعابه أو تطوير طاقة النظام على التفاعل والتجدد ضمن ظروف متغيرة. وليس ثمة ما يشير إلى أن العهد الحالي يتبين أهمية وجود آليات للتصحيح الذاتي أو إجراءات تعديلية تدخل قدرا من المرونة على النظام وتحسن لياقته وتحد من تصلب مفاصله. بل إن ما أفضى إليه مؤتمر حزب البعث الأخير من توحيد وتركيز السلطة دل الى أن نظام الحكم السوري يعمل بجد على إغلاق الباب أمام إبداعية قطاعات من المجتمع السوري أشكالا سلمية وعلنية لتملك المجال العام والمشاركة فيه. هذا دون أن يقترح عليهم أي بديل، ودون أن يشعر أصلا بأن عليه، بحكم احتلاله للدولة، أن يقترح عليهم أشكالا مناسبة من العمل العام. بإغلاق نافذة المشاركة يغلق النظام على نفسه نافذة آمنة للتجدد والانفتاح والتغيير. هذا مسلك يجمع التطرف واللاعقلانية.

اليوم تتواتر حوادث واختلالات تدل الى أن النظام الموروث يدفع ثمن احتكاره المطلق للسلطة عجزا متفاقما عن التكيف. فما كسبه في مجال تركيز السلطة وإطلاقها يخسره في مجال فرصه في الدوام. وإذ نجح في تحصين نفسه وحمايتها من بيئة اجتماعية يعتبرها غير ودودة، ومن بيئة إقليمية متقلبة، فقد أمسى ضحية نجاحه بالذات. وإذ استطاع تحطيم المبادرة الفردية والاجتماعية المستقلة، فقد أصيب بالعدوى وبات هو ذاته عاجزا عن المبادرة وتجديد الذات.

نريد من ذلك أن سد النظام أبواب التغيير أمام المجتمع السوري أفضى إلى سد أبواب التكيف أمامه هو بالذات. وهو ما يظهر على شكل «أخطاء»، ومزيج من الاندفاع المتهور والشلل المقعد، وتفكير سياسي مرتجل يجمع بين الانفصال عن الواقع وفقدان الاتساق الذاتي. نريد كذلك أن افتقاره الى آليات تغيير ذاتية تمكنه من تجديد شبابه هو الثمن الذي يدفعه لنجاحه في تعقيم المجتمع المحلي واستئصال إرادة التغيير وروح المبادرة منه. إن الباب الذي يمكن أن تأتي منه الريح العاصفة هو ذاته الباب الذي يأتي منه الهواء المنعش. وقد يكون الاختناق ثمنا للإفراط في تطلب الحماية والأمن.

يكتمل مشهد الانغلاق حين ينضاف الافتقار الى آليات تعرّف مستقلة على المشكلات الاجتماعية والوطنية إلى الافتقار إلى آليات التغيير الذاتية. فهنا أيضا وقع النظام ضحية التسييس المفرط للمعرفة والمعلومات والإعلام وسعيه لاحتكارها والاستئثار بها. لقد نجح في ذلك بالفعل، لكن نجاحه ارتد عليه على شكل تدن مريع في المستوى الفكري والثقافي لطاقم الحكم بقضه وقضيضه.

غياب آليات التغيير والتعرف يتجسد في معادلين جهازيين، الأمن والإعلام، يضمن فعلهما المتضافر كبت الرأي والتعبير الحر من جهة، والتجمع والانتظام المستقل من جهة أخرى، ما يتكفل ببقاء البلاد تحت ما سميناه غير مرة خط الفقر السياسي. ويثير هذا الشرط جملة من الأسئلة المشروعة: كيف يمكن وضع سياسات ناجعة ومتماسكة في ظل تدن ديناميكي لقدرة الفاعلين السياسيين المحتملين على استقبال المعلومات ومعالجتها وتحليلها؟ ودون إعلام حر ونقاش عام حر وآمن وجامعات مستقلة ونظام تعليمي غير محتكر لصالح تيار إيديولوجي سياسي بعينه...، من أين للمجتمع السوري أو للنظام ذاته أن يكون صورة مناسبة عن الوقع الذي يعيش فيه؟ ومن أين له أن يطور سيطرته على واقع لا يعرفه أو يحوز صورة مزيفة عنه؟ وكيف لا تنفلت شروط حياته مستقلة عنه وتتدنى سيادته على الواقع حين لا يستطيع تسمية الأشياء بأسمائها واستقلاب أو تمثل الواقع؟

وبمصادرة هوامش الحراك العام المستقل، ألا تدفع البلاد دفعا نحو دوائر التطرف والإرهاب والعنف، تجسيدات اللامعقول السياسي؟ فالدول والمجتمعات لا تستطيع أن تعيش خارج التغيير في عصرنا. والمسألة ليست بحال ما إذا كنا سنتغير أم لا، بل ما إذا كنا سنحاول السيطرة على التغيير والتحكم به وضبط مفاعيله والتمرس بقيادته ومواجهة مفاجآته والإفادة من ثماره المحتملة، أو اننا سنقطع الدروب في وجهه، ما يقود عمليا إلى الانجراف في مجاريه ومعاناة آثاره المفككة. فأمواج العولمة الاقتصادية والإعلامية والثقافية والسياسية تضرب بقوة متزايدة شاطئ نظامنا السياسي غير المرن. وتفاعل ديناميكية العولمة مع جمود النظام السياسي يثير قلقا متصاعدا بخصوص صيغ التغيير المحتملة وآثارها على الكيان الوطني والوحدة المجتمعية. وبعد احتلال العراق استقرت مسألة التغيير ضمن إشكالية داخل/ خارج، التي تعكس راهنية مطلب التغيير من جهة، واستعدادا انفعاليا وغير نقدي لتقبل أي تغيير حين يمتنع التغيير عقلاني من الداخل من جهة أخرى. هنا أيضا لا يشعر النظام أن عليه أن يقترح مخرجا عقلانيا من شرط يزداد حراجة وتغذية للتشوش والأوهام والمطامع والمخاوف، ذاك المزيج الانفجاري الأخطر.

الخلاصة التي يصل إليها المراقب العقلاني كل مرة هي أن اللاعقل يقودنا بثبات قدري نحو المحتوم. قبل أكثر من ثلاثين عاما كتب ياسين الحافظ عن «اللاعقلانية في السياسة العربية»، كاشفا تعارض مناهج السياسة العربية مع أهدافها، وتوغّل عرب المشرق، أكثر وأكثر، في مسار الهزيمة والتعفن. اليوم، اللاعقلانية لا تقود إلى الهزيمة والفشل في تحقيق الأهداف، بل إلى الانحلال، وربما تحطم الكيان السياسي ذاته. ربما يقال: أليس هذا عادلا من وجهة نظر التاريخ، ما دام هذا الكائن يضيف إلى الفشل في تحقيق أهدافه تدهورا مترقيا في قدرته على التكيف؟ غير أن التاريخ قلما يبالي بالأثمان الإنسانية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)