منذ أحداث الحادي عشر من أيلول والولايات المتحدة تصب جلّ اهتمامها على إحداث التغيير في الدول الأخرى، ولكنها لا تعير الكثير من الاهتمام للانسجام مع هذه الدول.

وهي تتحدث كثيراً عن الديمقراطية، ولكن قليلاً عن الدبلوماسية. هذه المسألة لا تشكل مشكلة في حال كانت الولايات تملك القوة الكافية لتفرض ما تريد، ولكن الحرب في العراق كشفت بكل قسوة النقاب عن وجود حدود لقوة الولايات المتحدة العسكرية، ويجب على الولايات المتحدة أن تبدأ مرحلتها التالية في خطتها الساعية نحو إحلال الأمن الوطني وإنهاء الإرهاب العالمي بأن تعترف بتلك بالاعتراف بتلك الحدود ،.

في ظل الاحتمال الضئيل لقمع تمرد العرب السنة أو إقرار نظام سياسي ترضى به جميع الأطراف في العراق واستمراره دون استخدام القوات الأمريكية، يبدو أنه حان الوقت للتفكير في انسحاب الولايات المتحدة بأقل قدر ممكن من العواقب السيئة. هذا يعني، وفوق كل شيء، جعل الدبلوماسية محور العجلة التي تسير بها أمريكا لتحقيق إستراتيجيتها.

إن الأسلوب الذي يجب استخدامه لتحقيق انسحاب ناجح من العراق يشبه إلى حد كبير ذلك الأسلوب الضروري لمجابهة الإرهاب في العالم وهو: إقامة تحالفات إقليمية تعتمد على المصالح المتبادلة، حتى مع الدول التي ما نزال نرفض التعامل معها. في حالة فيتنام، لم يكن هناك خوف كبير من عواقب خروج الولايات المتحدة وذلك لأن الدول المحيطة عملت على احتواء فيتنام.

إن الأخطار المترتبة على انسحاب الولايات المتحدة من العراق تشبه تلك التي ترتبت اثر انسحاب السوفييت من أفغانستان. المقاتلون الإسلاميون الأجانب الذين تدربوا وتمرسوا في ساحة الحرب في العراق، قد يعودون إلى بلادهم ويحاولون إسقاط الحكومات فيها، والعراق نفسه قد يغرق في حرب أهلية شاملة. وفي هذه الحالة ستتأثر جميع الدول المجاورة للعراق وستغوص المنطقة بأكملها في مستنقع من النزاع وعدم الاستقرار.

ربما يبدو هذا السيناريو سيئاً بالنسبة لأمريكا والغرب ولكنه بكل تأكيد كارثي بالنسبة للشرق الأوسط. إن منع حدوث الكارثة بعد مغادرة الولايات المتحدة لا يقع بيد أمريكا وإنما يتمركز بشكل رئيسي في أيدي القوى الإقليمية الرئيسية وهي: تركيا، إيران، سوريا، والسعودية.

يتوجب على الدبلوماسية الأمريكية تعزيز "إجماع الرأي العالمي" حول العراق، لكن هذه الجهود يجب ألا تتضمن أوروبا أو الأمم المتحدة، وذلك لأنهما لا تقلان ضعفاً عن الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على الأحداث المستقبلية في العراق. وحدها الدول المجاورة للعراق هي من يستطيع الموافقة على منع الأسلحة والتعزيزات من الوصول إلى جماعات عراقية مختلفة، والضغط على حلفائهم المحليين للوصول إلى تعايش مع بعضهم البعض.

يبدو هذا أملاً بعيد المنال نظراً لتاريخ هذه البلاد المليء بالنزاع وعدم الثقة. ولكن ليس هناك من له مصلحة بإثارة نزاع في المنطقة، بل على العكس تماماً، فقد نمت العلاقات بين هذه الدول بشكل عظيم خلال السنوات الأخيرة. السعودية، إيران، وسوريا تتعرض جميعاً لهجمات من حلفاء القاعدة من الإسلام السنة الثائرين، كما أن سوريا وإيران تتعاونان منذ فترة طويلة، إضافة إلى أن الوقوف في وجه استقلال كردستان يشكل مصلحة مشتركة قوية بين تركيا وإيران.

كي تتمكن الولايات المتحدة من تعزيز مثل هذا الإجماع، يجب أن تقوم واشنطن طبعاً بتغيير سلوكها الدبلوماسي بشكل كبير، على الأقل كما فعلت من خلال انفتاحها على الصين الناجم عن فشل الولايات المتحدة في فيتنام. وعندها يجب أن ننظر إلى ما يحدث ليس كهزيمة بل كفرصة جيوسياسية.

بالنسبة لإيران، على وجه الخصوص، كان حملها على التخلي عن نظامها النووي يعتمد دوماً على الضمانات التي تحصل عليها من الولايات المتحدة والتي تمنحها مكانة رائدة في النظام الأمني الجديد في الشرق الأوسط. وبالتالي فإن خلق اتفاق إقليمي في الرأي بشأن العراق يمكن أن يكون جزءاً من سياسة دبلوماسية أوسع نحو طهران. وعاجلاً أم آجلاً، يجب على الولايات المتحدة في أي حال من الأحوال أن تتفق مع طهران أو تتقاتل معها، خاصة وأن النمو الجيوسياسي للصين وتعطشها للنفط يزيدان من قوة إيران تدريجياً.

إن الوصول إلى "الدول المارقة" ستكون مهمة شاقة جداً على الولايات المتحدة. ولكن يجب على الأمريكيين أن يتذكروا بأن تلك الأنظمة المعنية مما كانت سيئة فهي لن تكون بمثل دناءة الطاغية الشيوعي ماوتسي تونغ. ولنتذكر أن الولايات المتحدة أبرمت صفقة براغماتية مع معمر القذافي الذي طالما اعتبرته تجسيداً للشر.

علاوة على ما سبق، يجب على صانعي السياسية الأمريكيين أن يسألوا أنفسهم السؤال التالي: هل سنكون في موقع أقوى عندما نحارب في مستنقع لا مكان للنصر فيه يسقط فيه أعداد متزايدة من القتلى، أم أنا سنكون أقوى لو أقمنا استقراراً إقليمياً يقوم على دبلوماسية براغماتية، حتى مع دول نصنفها نحن على أنها "محور الشر".

مصادر
هيرالد تريبيون (نيويورك)