أصدرت مجموعة "إنترناشونال كرايسز غروب" (International Crises Group) وهي منظمة مستقلة غير ربحية متعددة الجنسية مركزها بروكسل، تقريراً في شهر آب الماضي بعنوان "القدس... برميل بارود" عرضت فيه الأخطار المحدقة بمستقبل مدينة القدس والتي تهدد جدياً إمكانية قيام دولة فلسطينية جنباً الى جنب مع دولة اسرائيل في حال استمرت الحكومة الاسرائيلية الحالية في تنفيذ أعمال البناء في المناطق المتاخمة لمستوطنة معاليه أدوميم بهدف ربطها بمدينة القدس واستكمال أعمال البناء في جدار الفصل بصورة تصبح فيها كل كتل المستوطنات الاسرائيلية الكبرى في الضفة داخل اسرائيل.

تقوم أهمية التقرير على استناده بصورة اساسية على العمل الميداني وعلى كمية شهادات ومقابلات أجراها مندوبو المجموعة مع مسؤولين ومواطنين اسرائيليين وفلسطينيين وليس فقط على عمل أرشيفي وبعد العودة الى المصادر الاساسية في هذا الشأن.

وجمع التقرير بين العمل التأريخي لا سيما في الفصلين الاول والثاني حيث جرى استعراض تاريخ مدينة القدس وأهميتها لدى الاديان الثلاثة ثم كيفية التعاطي مع موضوع مستقبل المدينة في المفاوضات السياسية التي جرت بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني اثناء المفاوضات السياسية؛ الى جانب العمل التحليلي الذي ظهر بصورة واضحة في الفصل الثالث الذي تناول النتائج والمضاعفات السياسية لتطورات موضوع القدس على المكانة السياسية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والتهديدات الناتجة عن ذلك على الحل الدائم للنزاع وعلى اسرائيل في آن معاً.

هذا الى جانب التوصيات التي توصل اليها واضعو التقرير والتي وجهوها الى الحكومة الاسرائيلية والى حكومة الولايات المتحدة وأعضاء اللجنة الرباعية وعكست الى حد ما موقف المجموعة الذي يدعو الحكومة الاسرائيلية بحزم الى وقف البناء في المستوطنات كما نصت عليه خريطة الطريق والامتناع عن بناء اية مستوطنة او أحياء يهودية في القدس الشرقية وعدم توسيع مستوطنة معاليه أدوميم، ومراعاة ألا يتعارض مسار جدار الفصل مع القانون الدولي وألا يمر خارج حدود 1967 وألا يخلق حقائق سياسية جديدة على الارض من شأنها تغيير الوضع النهائي لمدينة القدس.

أما من اهم التوصيات التي توجهها المجموعة الى اللجنة الرباعية فيمكن تلخيصها بضرورة استمرار الضغط الدولي على اسرائيل لاحترام تجميد البناء في المستوطنات وعدم المساس بوضع مدينة القدس .

صدور التقرير في هذا الوقت بالذات أي بعد تنفيذ خطة فك الارتباط في غزة يكتسب دلالة خاصة لأنه يحاول ان يلفت انتباه الرأي العام الدولي الى محاولات أرييل شارون توظيف التأييد الدولي الذي حصده بعد انسحابه من غزة من أجل تسجيل وقائع جديدة على الارض ذات صلة بمستقبل مدينة القدس وحدود الدولة الفلسطينية العتيدة.

ولقد اوضحت خلاصة التقرير ذلك فقد جاء فيها: "لأسباب يمكن فهمها اختار المجتمع الدولي التركيز على الانسحاب من غزة على حساب كل شيء آخر يتعلق بالساحة الاسرائيلية –الفلسطينية. وظلت الولايات المتحدة على وجه الخصوص متلكئة جداً في انتقاد سياسات رئيس الوزراء شارون بينما هو يجازف كثيراً سياسياً وشخصياً ويواجه تهديداً جاداً من اليمين. وعلى الرغم من تفهم هذا الموقف الا أنه موقف قصير النظر ومحفوف بالمخاطر. فلقد كانت القدس وستبقى برميل بارود".

ويعدد واضعو التقرير الاسباب التي ستشكل حتماً سبباً لتفجير هذا "البرميل" وهي:بناء الجدار حول مدينة القدس بصورة يمتد فيها الى عمق الضفة الغربية، توسيع المستوطنات القديمة وبناء الجديد منها، محاولات ربط معاليه أدوميم بإحكام أكبر بالقدس، هدم البيوت في القدس الشرقية، فصل حوالى 20000 فلسطيني عن بيئتهم الطبيعية، بحيث يخسر الفلسطينيون القدس الشرقية كعاصمة متجانسة متماسكة وقادرة على الاستمرار.

المهمة الاساسية التي ركز عليها واضعو التقرير هي تنبيه الرأي العام الدولي والمسؤولين الى ضرورة عدم السكوت او التساهل مع اي مسعى اسرائيلي جديد يرمي الى معاودة البناء في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وتغيير وضع مدينة القدس.

ومما يعطي قيمة خاصة لهذه التحذيرات والتنبيهات أنها لا تصدر عن جهات عربية ولا انطلاقاً من دوافع ايديولوجية بقدر ما تأتي عن جهة دولية احترافية مثل "كرايسز غروب" يتولى فيها مسؤوليات مختلفة عدد من الشخصيات ذات التاريخ في العمل الديبلوماسي والسياسي، ومن جنسيات مختلفة بينها شخصيات اسرائيلية مثل ايتمار رابينوفيتس وزير خارجية اسرائيل أثناء المفاوضات مع سوريا.

يتوقع التقرير ان تكون المرحلة المقبلة من النزاع مرحلة جمود سياسي وشلل ديبلوماسي لا سيما في ظل التخوف من الفوضى التي قد تثيرها الخلافات بين "فتح" و"حماس" و"الجهاد الاسلامي" والنزاعات السياسية في الانتخابات النيابية الفلسطينية التي من المنتظر ان تجري في 20 كانون الثاني المقبل. الى جانب الصعوبات التي يواجهها أرييل شارون داخل حزبه واحتمال خسارته رئاسة الحزب والدعوة الى انتخابات مبكرة في اسرائيل مما سيجعل عام 2006 عام الانتظار فتفقد العملية السلمية في المنطقة الكثير من زخمها، وفي حال استغلت الحكومة الاسرائيلية الوقت لاستكمال اعمال البناء في المستوطنات وتوسيعها وافراغ القدس الشرقية من سكانها وقطع الواصل السكاني والجغرافي بين الفلسطينيين من سكان الضفة وغزة والقدس الشرقية فمعنى ذلك العودة بالنزاع من جديد الى نقطة الصفر.

مصادر
النهار (لبنان)