النموذج "الديمقراطي" الأمريكي الذي أراد بوش إيصاله إلى الشرق الأوسط مازال قائما، وهو يؤكد دائما حماسه "الطفولي" لـ"حرية الشعوب" .. وبغض النظر عن شكل هذه الديمقراطية وآليات تطبيقها، لكن المهم أن الولايات المتحدة عازمة على تنفيذ "حربها الاستباقية" في الشرق الأوسط، سواء عبر تواجدها العسكري كما في العراق، أو عبر "المد الديمقراطي" كما في مشروع الشرق الأوسط الكبير.

وجهة النظر الأمريكية تنعكس بشكل متفاوت على الساحة الداخلية .. فصحيح أن كافة تيارات المعارضة أعلنت عدم قبولها باللون الأمريكي لآليات المعارضة، وعلى الأخص بعد تجربة العراق. لكن التوجه الأمريكي يخلق "المناخ" أو "السياق" الذي يمكن للعمل السياسي التعامل من خلاله. ويبدو ان المؤشرات كثيرة حول هذا الموضوع، حيث باتت أمرا واقعا حتى في الخطاب السياسي العام، فمن اقتران الديمقراطية بحقوق الأقليات، إلى التعامل مع السلام على أساس المجتمع المدني وتنظيماته، نستطيع أن نجد ظاهرة هامة بدأت في وقت مبكر من عقد التسعينيات.

ووسط "السياق" القديم والجديد للعمل السياسي فإن الثقافة الاجتماعية في سورية تقف أمام جملة من الاستحقاقات؛ فهي لا تستطيع تجاهل السياق الجديد المتشابك مع التكوين العالمي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة. وهي في نفس الوقت لا يمكنها الانغماس بشكل كامل مع هذا السياق الذي يمثل احتياجا دوليا يتناقض في كثير من الأحيان مع أساسيات الثقافة السائدة.

المأزق واضح اليوم .. فصحيح أن المعارضة تتعامل مع الطروح الأمريكية وكأنها لا تعنيها، لكنها في نفس الوقت تعمل مع السياق الذي أتاحه التفكير بعالم ما بعد الحرب الباردة. وإذا كانت المسألة الكردية على سبيل المثال ترفض الدعوات الخارجية التي تصورها بشكل مستقل عن الوطن، لكنها تستفيد من "سياق" موضوع الأقليات الذي يعتبره منظرو "العالم الجديد" مدخل الديمقراطية. وإذا كان التيار الديني يشعر أنه محاصر نتيجة المزج ما بين الإرهاب والإسلام، لكنه يستفيد أيضا من مفاهيم الخصوصية الثقافية التي ظهرت في مراحل ما بعد الحداثة!!

هذه المسائل تحتاج اليوم إلى إعادة نظر والتفكير بـ"السياق" الذي تطرحه الولايات المتحدة، وليس في رفض مشاريعها أو قبولها. لأن الولايات المتحدة ليست في النهاية عدوا مطلقا؛ بل هي ثقافة ومجتمع ينتجان مؤسسات تتضارب مصالحها معنا، وهو شأن طبيعي في مسيرة الحياة البشرية، لكن الخطورة ليست في تضارب المصالح الذي يصل أحيانا لدرجة العداء، إنما في عدم القدرة على إبداع "مسار" تطور ثقافتنا بشكل يستفيد من "السياق" الذي تتيحه الثقافات "الطاغية" اليوم، دون أن ننغمس فيه لدرجة تضعنا في مأزق جديد .. وربما يكون هذا الأمر هو احد أوجه "المصالحة" التي نريدها مع أنفسنا لرؤية المستقبل بشكل أوضح.