يقول هيغل في مكان ما إن الأحداث التاريخية الكبيرة تكرر نفسها مرتين. ويضيف ماركس معلقا على القول بأسلوبه الهازل أحيانا إن المرة الأولى تكون تراجيدية في حين أن الثانية تكون كوميدية. فهل يمكن اعتبار الحدث الحدودي بين سورية ولبنان النسخة الهزلية من تجربة سورية في أوائل الخمسينات من القرن الفائت؟

في أواخر عام 1949، تسلم خالد العظم رئاسة الحكومة في الجمهورية السورية. وكانت العلاقات مع الحكومة اللبنانية بين شد وجذب منذ حصول كلا البلدين على استقلاهما قبل ست سنوات. وسبب توتر العلاقات كان شعور السوريين بالغبن من هيمنة الرأسمال اللبناني على الاقتصاد في سورية ولبنان معا. وذلك بسبب الوحدة الجمركية بين البلدين. فقد كانت الجمارك المشتركة مرؤوسة دائما من قبل مدير لبناني، وكانت الحكومة اللبنانية ترفض تداول رئاسة الهيئة بين البلدين.

وغالبا ما كان المدير اللبناني يتجاهل مصلحة السوريين في عملية الاستيراد والتصدير. ولأن المرفأ المشترك كان في بيروت، ولأن سورية لم تكن تملك مرفأ مستقلا، كان اللبنانيون أقدر على التحكم بهذه العملية، التي غالبا ما تترك أثرها على اقتصاد الدولتين معا، خصوصا إذا أضفنا ذلك أن اللبنانيين كانوا يتمتعون بميزة حصرية الوكالات الأجنبية لكل من سورية ولبنان.

في هذه الظروف قامت الانقلابات الثلاثة الشهيرة في سورية خلال أقل من عشرة أشهر. وفيها شكل خالد العظم حكومته الثانية وهي، برأي كثرة من السياسيين والمؤرخين، أكثر حكومة مميزة في تاريخ سورية. فهي الحكومة التي فصلت الوحدة الجمركية مع لبنان، وأصلحت النقد السوري، وأنشأت مرفأ اللاذقية، وبدأت ببناء مخازن المحروقات، ووسعت شبكة الطرق الحديدية وأقامت مشاريع للري، دون أن تزيد مدة وجودها في الحكم أكثر من ستة أشهر.

وارتأى العظم أن من العدل أن يتم تعميم الخير على الشعبين السوري واللبناني، طالما أنهما يملكان إدارة جمركية موحدة، وطالما أن البرجوازية اللبنانية تلعب دورها بالأصالة عن نفسها والنيابة عن شقيقتها السورية.

ومن هنا كانت فكرة العظم قيام وحدة اقتصادية بين البلدين. ولتحقيق ذلك طلب من وزير اقتصاده معروف الدواليبي أن يجتمع مع قادة الرأي الاقتصادي في سورية لأخذ رأيهم. وبالفعل اجتمع الدواليبي مع خبراء اقتصاديين ومع ممثلي الغرف التجارية والصناعية والتجارية لمدة أيام في جامعة دمشق. ووصل الجميع إلى رأي موحد: إما وحدة اقتصادية ونقدية يخلص لها البلدان وإما انفصال عاجل يكون فيه كل من البلدين حرا في اتباع السبيل الذي يناسبه.

وقرر العظم أن يرسل إلى الحكومة اللبنانية مذكرة يعرض عليها فيها رأي حكومته في مسألة الوحدة الاقتصادية ويطلب من نظيره اللبناني، رياض الصلح، الرد في مهلة معقولة. وشرح العظم في مذكرته أن من أسباب الضعف والاضطراب اللذين منيت بهما المصالح المشتركة ارتكازها على اتفاقات مؤقتة قصيرة الأمد، محدودة النطاق وسعي الحكومتين عند أي خلاف إلى حلول مؤقتة جزئية للقضايا الأساسية والطارئة.

وجاء رد الرئيس الصلح سلبيا، ملاحظا أن حكومته لا يسعها التسليم بمحتوى المذكرة السورية التي وصفها بأنها اتخذت شكل "إنذار." وفي اليوم التالي أصدرت حكومة العظم مرسوما بفصل الجمارك السورية عن اللبنانية وتأسيس مديرية عامة للجمارك مرتبطة بوزارة المالية.

ولتعزيز الموقف السوري، قرت حكومة العظم أيضا إصلاحات نقدية جذرية، بتطبيق أنظمة القطع على العمليات التجارية بين سورية ولبنان، وعدم السماح بتدفق القطع السوري إلى لبنان لتبديله بالليرة اللبنانية لتسديد قيمة البضائع التي تشتريها سورية. وهو ما كان أدى إلى هبوط الليرة السورية وارتفاع قيمة الليرة اللبنانية.

ثم قررت الحكومة منع نقل البضائع من لبنان إلى سورية باستثناء البضائع العابرة (الترانزيت) والبضائع المعفاة من الجمارك والمحروقات. وصدر ذلك بالمرسوم التشريعي رقم 71 لعام 195.

وكانت أول خطوة قام بها الرئيس العظم بعد توقيع الرئيس هاشم الأتاسي على المرسوم هو لقاء السيد رشدي الكيخيا، رئيس مجلس النواب لإطلاعه على المرسوم، ومن ثم لقاء الصحافيين وإبلاغهم نص القرار ومضمونه وإجراؤه حوارا مطولا معهم حول ذلك، فلقي منهم دعما غير مسبوق.

يقول العظم في مذكراته إن تأييد هذا القرار "كان شاملا جميع أنحاء البلاد وجميع عناصرها." وهو يعزو سبب الارتياح إلى أن الشراكة الجمركية كانت قد "عادت بالخسارة على البلاد،" واستبشر السوريون بإلغاء الوساطة التجارية اللبنانية في جميع المستوردات السورية من الخارج. وتحمس الصناعيون لمنع مزاحمة الصناعة اللبنانية لمنتجاتهم، وهي مزاحمة كادت تؤدي إلى إفلاس بعضهم.

كان قرار العظم ضربة كبيرة للاقتصاد اللبناني ولمكانة الرئيس الصلح السياسية. غير أن العظم لم يكن يريد ذلك، خاصة وأنه كان دائما معجبا بتوجه الصلح القومي. لذلك حين أرسل الأخير وسيطا يطلب من خلاله أن يقوم العظم بزيارته في بيروت، سارع المنتصر السوري إلى تلبية الطلب وزار بيروت وتحدث مع الرئيسين الخوري والصلح، وأكد لهما أنه قدم إلى بيروت "لكي يعلم الرأي العام السوري واللبناني والعربي أننا وإن اختلفنا في الشؤون الاقتصادية فإن اتحادنا في الشؤون السياسية العربية وطيد لا تزعزع."

ويبدو الآن أن قرار العظم حقق منافع لا تحصى للسورين عموما، فبدأ السوريون، حتى اللذين لم يتعاطوا التجارة في سابق حياتهم، يبذلون جهدا واسعا في التجارة الدولية، وراحوا، وفقا لسجلات غرف التجارة السورية، يستحصلون على وكالات الشركات الأجنبية في سورية، ويستجلبون البضائع الأجنبية إلى سورية مباشرة بعد أن كانت تأتي عن طريق التاجر اللبناني حصرا.

يقول العظم في مذكراته إن أهل دمشق حفظوا له "في قلوبهم منة لتحقيقي ما عاد عليهم جميعا بالوفر والربح والعمل." ويبد أن الدمشقيين أظهروا له هذه المنة في الانتخابين التشريعيين في 1954 و1961، حين فاز العظم بأعلى نسبة من الأصوات، وتفوق على مرشحي الحزبين الكبيرين آنذاك: الشعب والوطني، وجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب التقدمية كحزب البعث والشيوعي.

كيف يختلف هذا الحدث التاريخي عن إغلاق الحدود السورية بوجه الشاحنات القادمة من لبنان، مؤخرا؟

أولا: كان من المؤكد أن قرار الرئيس العظم يومذاك قرارا اقتصاديا محضا، وليس ردة فعل سياسية على موقف سياسي قامت به الحكومة اللبنانية أو الشعب اللبناني.

ثانيا: حين دار بخلد الرئيس العظم فكرة إنهاء الوحدة الجمركية، كان أول شيء فعله أن استدعى عددا كبيرا من قادة الرأي الاقتصادي ليشاورهم في الأمر، ويرى إلى حسنات مثل هذا القرار وسلبياته على سورية والسوريين عموما.

ثالثا: تم دراسة القرار في مجلس الوزراء، ثم صادق عليه رئيس الدولة، وتم إطلاع رئيس البرلمان عليه. بالمقابل لم يتم دراسة الخطوة الراهنة من قبل أي مجلس للوزراء أو هيئة حكومية أخرى.

رابعا: سارع رئيس الحكومة إلى الاتصال بالصحفيين لإبلاغهم بالقرار وشرح أبعاده لهم، ولم يتركهم يتحزرون فيما إذا كان هنالك قرار سياسي بهذا الخصوص أم أن الأمور خطوة مزاجية اتخذتها جهة ما.

خامسا: سارع العظم إلى زيارة بيروت واللقاء مع الرئيسين الخوري والصلح لإيضاح الأمر ولإفهام الرأي العام في سورية ولبنان أن الموضوع اقتصادي بحت وليس له أي بعد سياسي. بالمقابل كان واضحا للجميع أن الخطوة السورية الراهنة كانت بهدف سياسي بحت، واستخدم الاقتصاد كسلاح لإذلال اللبنانيين وليس دفاعا عن المصالح الاقتصادية المستقلة.

سادسا: أغلقت الحدود في وجه الشاحنات اللبنانية التي كانت متجهة للتفريغ في سورية فقط ولم تمنع الشاحنات العابرة (الترانزيت،) في حين كانت أكثر من 90% من الشاحنات المنتظرة على الحدود في الأشهر الفائتة سيارات عابرة باتجاه دول الخليج.

وأهم من كل ذلك، فقد كانت خطة العظم خطة اقتصادية متشابكة ومتكاملة. ولقد ارتبطت قضية الفضل الجمركي مع ثورتين حقيقيتين قام بهما رئيس الحكومة، هما: إصلاح النقد وإنشاء مرفأ اللاذقية.

على صعيد إصلاح النقد،أصدرت حكومة خالد العظم سلسلة من القرارات والتشريعات كانت في جملتها تهدف إلى إلغاء حق المصرف السوري في إصدار النقد وحصر هذا الحق ملكا للدولة السورية وحدها، عبر مؤسسة سورية مائة بالمائة أطلق عليها اسم "مؤسسة إصدار النقد السوري." وأدت ثورة العظم النقدية إلى رفع قيمة الليرة السورية فصارت تساوي أكثر قليلا من 405 ميلليغراما من الذهب.

وأما إنشاء المرفأ فكان واحدا من أهم المشاريع الاقتصادية والعمرانية التي ينبغي أن ترتبط باسم هذا الرجل المتفرد. لقد رأى العظم أن الفائض الممكن تصديره من الناتج الزراعي والصناعي السوري متمركز في شمال وشرق البلد أكثر من جنوبه وغربه. فإذا افترضنا أن حلب هي مركز تخزين للمواد المراد تصديرها، فإن حسبة صغيرة تخبرنا أن مرفأ في اللاذقية سوف يختصر أكثر من نصف المسافة إلى بيروت. فإذا أضيف ذلك إلى ضرورة أن يكون لسورية مرفأ تسيطر به على سياسة التصدير والاستيراد من أجل استقلال اقتصادي حيقي، علمنا كيف كان العظم يربط بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، في نسيج فريد في تاريخ سورية.