للمرة الاولى منذ 38 عاماً لم يعد قطاع غزة يخضع للاحتلال العسكري الاسرائيلي المباشر. ولا يبدو في الافق ما يشير الى معاودة هذا النوع من الاحتلال الذي جربته اسرائيل مرتين، خلال العدوان الثلاثي العام 1956 وحرب حزيران (يوينو) 1967 والذي انتهى عملياً أمس. فالظروف الاقليمية تغيرت على نحو تستبعد معه حروب عربية - اسرائيلية كانت وراء الاحتلال للقطاع. والظروف الاسرائيلية الداخلية تغيرت أيضاً في اتجاه الاقتراب من ترسيم حدود الدولة العبرية التي باتت واضحة ومحددة في القطاع، في انتظار المعطيات التي يمكن ان تساعد على ترسيمها في الضفة الغربية.

انتهى الاحتلال العسكري المباشر للقطاع حيث ستتشكل العوامل المحددة للمعطيات في الضفة. وليس صدفة ان تتقصد اسرائيل الابقاء على الغموض القانوني في القطاع، والتنصل المسبق من اي مسؤولية في تطوراته اللاحقة. لقد أراد شارون من الانسحاب «فك ارتباط» من جانب واحد، ولذلك أفشل حتى عملية التسليم والتسلم الشكلية مع السلطة الفلسطينية، حتى لا يكون القطاع منطقة فلسطينية من وجهة نظر القانون الدولي، وحتى يحتفظ بامكان التدخل اللاحق فيه من دون ان يعتبر مثل هذا الاعتداء خرقاً لحدود دولية.

ثمة قراءتان للخطوة الاسرائيلية في القطاع تندرج تحتهما كل المواقف الفلسطينية. القراءة الاولى تعتبر ان الانسحاب الاسرائيلي فرضته الضربات العسكرية، وتالياً اصبح القطاع «محرراً». وينبغي الاستمرار في هذه الضربات حتى تحرير بقية الاراضي الفلسطينية. والقراءة الأخرى تعتبر ان اي انسحاب اسرائيلي يصبح مكسباً عندما يتمكن الفلسطينيون من توفير مقومات ممارسة السيادة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن جعل هذه السيادة عامل قوة في مراحل التفاوض اللاحقة على الحل الشامل. وفي دفع كل من القراءتين الى مداه تكمن خطورة الانفجار الداخلي الفلسطيني، بما يطيح فرص الانتقال الى مرحلة متقدمة من المفاوضات. وهذا ما يدركه رئيس السلطة محمود عباس ويحاول تفاديه، رغم ما شهده اليوم الاول، بعد الانسحاب الاسرائيلي من ممارسات لا تصب بالضرورة في اطار تصوره للسلطة الواحدة والتعامل الفلسطيني الموحد.

لن يتوانى شارون عن استغلال الانسحاب من غزة في حضوره الدولي في نيويورك، من اجل اعطاء صورة سلمية لاسرائيل. كما لم يتردد وزير خارجيته سلفان شالوم من استغلال حرق كنس في المستوطنات المخلاة من اجل اعطاء صورة سلبية عن الفلسطينيين. ويكمن التحدي امام السلطة في جعل الصورة الحقيقية الاسرائيلية ساطعة على المستوى الدولي، وفي جعل الصورة الفلسطينية قادرة على استيعاب اي عون دولي.

في اي حال، تبقى هناك مسألة غاية في الاهمية استند اليها شارون لتمرير فك الارتباط عبر المؤسسات الاسرائيلية، وهي الرأي العام الاسرائيلي. استخدم شارون هذا السلاح ذا الحدين من اجل تمرير خطته. لكن في النهاية وافق الاسرائيليون، بمن فيهم المستوطنون المتطرفون، على الجلاء من مستوطنات. ولا يقلل من أهمية هذا التطور في الرأي العام الاسرائيلي كون هذه المستوطنات باهظة الكلفة ومعزولة وخارج الارض التوراتية، لان غالبيته كانت مقتنعة بضرورة البقاء فيها قبل ان يعلن شارون خطته. واذا كانت هناك ثمة امكانية لكسب هذا الرأي العام في انسحابات في الضفة، في مراحل لاحقة من التفاوض، فهي تكمن في قدرة الفلسطينيين على ادارة شؤونهم واظهار ان مثل هذه الانسحابات تعزز السلام. وفي مثل هذه الحال يكسبون معركة «تحرير» غزة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)