يبدو أننا أخذنا ننسى، في حمأة الحديث عن الديموقراطية والاصلاح، ما يعتمل داخل دولنا ومجتمعاتنا العربية من فرقة وانقسام، ويتفاعل في نفوس أبنائها من شحن سياسي وطائفي وإثني وجهوي وأيديولوجي... إلخ، يعزز مخاطر تمزقها وتفككها، ويقوي خطر ارتطام مكوناتها بعضها ببعض، بعد أن قامت فيها أوضاع أدت الى افتراق جذري بين سلطاتها وشعوبها، وبين تكوينات مجتمعاتها، التي تعاني اليوم من أزمة لا تعرف كيف تخرج منها، تتجسد في عجزها عن احتمال أوضاعها من جهة، وعن تغييرها من جهة أخرى، بينما تستطيع حكوماتها البقاء في السلطة، رغم أنها تمر بدورها في أزمة تجعلها عاجزة عن معالجة المشكلات الكثيرة، التي أنتجتها سياساتها، ويتربص بالحكومات والشعوب خارج قوي وعدواني ينضج بهدوء شروط إضعافها وانهيارها، والقضاء عليها لاحقاً بما يتوفر له من قوة مفرطة.

لو تأملنا المشهد العربي الراهن، لوجدنا بلداننا تكاد تنفجر من التوتر، ولأثارت تناقضاتها المتفاقمة القلق في نفوسنا، ولوجب أن تدفع بنا الى إيجاد مشتركات تاريخية يمكن أن نحل بمعونتها مآزقنا المزمنة، التي تصير ملتهبة، وخاصة منها تلك المرتبطة بالعلاقات بين دولنا، وبالوحدة الوطنية داخل كل مجتمع من مجتمعاتنا، وبالعلاقة بين السلطة والمواطن في بلداننا، التي تتسم بقدر خطير من الفئوية والتمييز والعنف، وتضمر احتمالات خطيرة يمكن أن تفجر دوماً صراعات عنيفة بين طرفيها، اللذين يبدوان وكأنهما يعيشان فترة ما قبل العاصفة: فترة حشد القوى وتعبئة الطاقات الضرورية لصراع عنيف، يجعله حتمياً أن زمن الحوار والحلول الوسط الداخلية لا يريد أن يأتي، لأن السلطة تضع مجتمعاتها أمام بديلين: القبول بالأمر القائم كما هو، أو المعركة الداخلية، المفتوحة على أسوأ الاحتمالات.

هذه صورة الوضع في أكثر من بلد عربي، وخاصة بلدان المشرق، حيث تتخلق حالة صراع عنيف بين تكوينات مجتمعاته، التي تحتل مواقع متباينة وتلعب أدواراً مختلفة ضمن دولة ترد عن نفسها خطر الديموقراطية بالفئوية، وخطر الاندماج الداخلي بالعمل على التهييج المذهبي والطائفي، وتشرف على تفكيك ما بقي من وحدة في قاع مجتمعاتها، اعتقاداً منها بأن إضرام سعير التناقضات بين مكوناته سيحولها الى حكم يضبط الأمور وإن على نار حامية، وأن دوام الاستعصاء الراهن يجعل منها طرفاً وحسب في مصالح وحسابات تجعلها عاجزة عن تأدية وظائف الدولة الحديثة، وخاصة منها الوقوف على مسافة واحدة من تكوينات المجتمع.

في مقابل صورة الدولة، التي تقوض سلطتها وحدة المجتمع عن سابق عمد وتخطيط، تتكون في بلدان أخرى ـ كالعراق ـ صورة مغايرة، يبرز ضعف السلطة فيها ويعزز أدوار أطراف وتكوينات حزبية وسياسية ومذهبية تقوض من جانبها وحدة الشعب والمجتمع، وتعد بلادها للحرب الأهلية. هنا، تبدو الدعوة الى العنف سبيلاً للخلاص من حكم أجنبي بغيض ـ العراق ـ أو سلطة محلية فاسدة ـ فلسطين، بينما هي في النموذج الأول ـ نموذج السلطة التي تشرف على تحضير بلدانها للاقتتال ـ السبيل الى تقييد وضرب معارضة داخلية، والى التحرر من احتجاز وظيفي يعيشه الحكم، مثلما قد تكون مقدمة مساومة مع الخارج تضمن استمرار الأمر السياسي القائم.

ثمة، احتمالان ينضجان في واقع العرب الراهن: احتمال أن نذهب الى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، تتيح انتقالاً تدريجياً وآمناً نحو وضع بديل، نقبله جميعاً لأنه من اختيارنا، واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا من أزمتنا الراهنة الى حال مفتوح على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما، في الحقيقة، بديلان تاريخيان للواقع العربي الحالي، يمثل أولهما فرصة وثانيهما كارثة. وبما أن أحدهما سيتحقق في زمن يبدو أنه لم يعد بعيداً، فإن انتصار الأول منهما يتوقف على ما نبذله نحن، أبناء هذه الفترة الصعبة جداً من التاريخ العربي، من جهود ناجحة لدرء الثاني: الكارثة.

لا حاجة للتأكيد على خطورة ما نحن فيه. ولا حاجة للقول: ان فرص البديل الثاني تبدو أكبر بكثير من فرص الأول، واننا في مواجهة عواصف توشك أن تنقض على منطقتنا العربية، ستكون اختباراً لقدرتها على الحياة، ودرء الحروب الأهلية والرسمية، التي تلوح في آفاقها، وقد تقوض وجودها الى زمن لا يعرفه غير الله!

مصادر
المستقبل (لبنان)