عندما خرج أول من أمس آخر جندي اسرائيلي من قطاع غزة وأغلقت وراءه البوابات تنفس المسؤولون في الجيش الاسرائيلي الصعداء ومعهم سائر الاسرائيليين.واذا كان الجيش مرآة للمزاج العام في الشارع الاسرائيلي يمكن القول ان الاسرائيليين يشعرون بأنهم تخلصوا من عبء ثقيل اسمه غزة كان رازحاً على صدورهم منذ أكثر من 38 عاماً.

ثمة وجه شبه أساسي بين خروج الجنود الاسرائيليين من غزة قبل يومين وخروجهم من لبنان قبل أكثر من خمس سنوات، هو أنهم تأخروا كثيرا لكي يقوموا بما يقومون به ودفعوا ثمناً باهظاً للسياسات الخاطئة وللأوهام وللإيديولوجيات.

ولكن بعكس الجدل الشديد الذي أثاره الخروج من لبنان بين المتحمسين له والمعارضين والمحذرين منه يبدو اليوم ان الغالبية الساحقة من الاسرائيليين مقتنعة بأن البقاء في غزة كان "خطيئة" وفقاً لوصف أحد المعلقين الاسرائيليين. أما قصة المستوطنين اليهود الذين أخروجوا بالقوة من غزة فباتت قديمة ولم يعد احد يتذكرها.

مشاعر مختلطة تنتاب الاسرائيليين هي مزيج من المرارة والاسف لتضييع كل هذه السنوات في مكان مثل غزة وأيضاً شعور عارم بالارتياح والخلاص من هذا المستنقع. وربما ردة الفعل الاسرائيلية هذه تكشف الى حد ما أن هناك قناعة مقيمة داخل كل اسرائيلي بأن الآوان قد حان لأن تبدأ اسرائيل بالعيش كدولة طبيعية داخل حدود معروفة وواضحة وان عليها أن تعمل على حل نزاعها مع الفلسطينيين والتوصل الى تسوية.ويبدو مرة اخرى أن تجربة الانسحابات الاسرائيلية الأحادية الجانب التي تقوم بها اسرائيل قد خلقت بصورة تلقائية وعياً جديداً لدى الاسرائيلي العادي بأن السعي الى إقامة حدود آمنة لدولة اسرائيل أهم من الإيديولوجيا والمعتقدات التي يختلط فيها الدين بالأساطير. وتجربة الانسحاب الأحادي من لبنان الذي نفذه حزب العمل كان المثال الاول لنجاح هذه المقولة التي طبقها هذه المرة على غزة حزب الليكود.رغم كل الثغرات والنواقص ورغم بقاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية واستمرار وجود المستوطنات اليهودية هناك، ورغم بناء جدار الفصل العنصري وانتهاك اسرائيل اليومي لحقوق الفلسطينيين، ورغم التبجح اليومي لكل الزعماء الاسرائيليين بان القدس ستبقى"عاصمة اسرائيل الابدية"، ورغم أن الانسحابات من طرف واحد هي الغاء لوجود الطرف الآخر واستفراد بالقرار، ورغم "السجن الكبير" الذي قد تتحول اليه غزة، ورغم الخوف من سيطرة التطرف والمنظمات الاصولية على مستقبل غزة السياسي ورغم المخاوف الكبيرة من عجز السلطة الفلسطينية على إعادة بناء القطاع اقتصاداً ومجتمعاً، رغم هذا كله وربما غيره لا بد من القول ان الانسحاب من غزة هو بداية تحول في الرؤية الاستراتيجية السياسية لمستقبل اسرائيل في المنطقة،وتغير أيضاً في عقيدتها القتالية.

الخلاصة الاولى انه مهما بلغت قدرات اسرائيل ونما نفوذها السياسي وتحسنت علاقاتها مع العالم لا يمكنها ان تتغلب على المشكلة الديموغرافية أو القنبلة الموقوتة التي يمثلها التكاثر السكاني الفلسطيني. فإذا ارادت اسرائيل أن تبقى دولة اليهود عليها ان تسعى الى ذلك من طريق الانفصال في أقرب وقت عن الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية ويكفيها القلق من الأقلية العربية المقيمة داخل حدودها.الخلاصة الثانية أنه حتى لو كان الجيش الاسرائيلي من أقوى جيوش العالم وأكثرها تطوراً وتسلحاً غير انه لا يمكنه ان يحقق الانتصار العسكري الناجز في "حرب العصابات" التي شنها الفلسطينيون عليه في السنوات الماضية. وبمواجهة الحرب الجديدة التي تواجهها دول العالم بأسرها مع "الارهاب الاصولي" وشبكاته في كل مكان لا تنفع الاحزمة الامنية ولا الاحتفاظ بعمق استراتيجي. قد يكون الانسحاب من غزة رسم حدود اسرائيل الجنوبية.ليس الانسحاب من غزة هو الذي سيحدد المستقبل السياسي للفلسطينيين ولكن ارادة الفلسطينيين ووعيهم وايمانهم بقدرتهم على بناء دولتهم التي قد يكون بناء غزة من جديد هو الفرصة الاولى نحو بناء الوطن الموعود.

مصادر
النهار (لبنان)