عندما اعتقلت الشرطة اللبنانية أربعة من قادة الجيش والاستخبارات السابقين في الشهر الماضي، سارع المعلقون العرب إلى الاستنتاج بأن أمراً بالغ الأهمية يجري لا بالنسبة إلى لبنان وحسب، بل للعالم العربي برمته، وقد غدا الأربعة، الذين كانوا ذات يوم من أقطاب نظام الرئيس لحود الموالي لسوريا، مشتبهاً بهم في قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وتمت الاعتقالات بناء على طلب ديتليف ميليس المدعي العام الألماني المسؤول عن فريق الأمم المتحدة الذي يحقق في القضية. وعلى الرغم من أن الدولة اللبنانية، من الناحية الرسمية كانت تمارس سلطتها المستقلة، إلا أنها ما كانت تستطيع أن تفعل ذلك من دون الدعم الدولي الذي يجسده ميليس.

وبالنسبة إلى راغدة ضرغام من صحيفة “الحياة” التي توزع في الوطن العربي، فإن تحقيقات ميليس سوف تسبب زلزالاً في كل المنطقة العربية، فقد انتهى عصر الاغتيالات السياسية، وبالنسبة إلى رامي خوري من صحيفة “ديلي ستار” التي تصدر في بيروت، تشكل الاعتقالات نقطة تحول تاريخية حقيقية يمكن أن تحطم هيمنة السلطة السياسية التي تمارسها مؤسسات الأمن والجيش العربية، حيث يكون لها “في هذه المنطقة الأثر ذاته الذي كان لمولد حركة “تضامن” البولندية قبل 25 سنة، وهو استثارة تغييرات في علاقات السلطة أدت في نهاية المطاف إلى انهيار نظام الدولة البوليسية الشيوعية.

ربما يحدث ذلك ولكن المقاومة لمثل هذه العملية ستكون شرسة، ولن تكون في أي مكان أشرس مما ستكون في المكان الأول الذي سيتعين عليها أن تنتشر فيه، ان كان لها أن تشرع في التأثير حتى في لبنان ذاته، ناهيك عن بقية أنحاء العالم العربي. وذلك المكان، أي دمشق، هو المكان الذي شرع فيه ميليس في إجراء توسيع حاسم وخطير لمهمته.

يكمن السر في أن مضامين وتداعيات قضية الحريري قد أخذت أبعاداً إقليمية واتسعت انعكاساتها لتهز العالم العربي كله في الحقيقة الراسخة الجذور، ومفادها أن ما يحدث في جزء من أجزاء “الوطن العربي” لا بد وأن يكون له وقع الأمثولة على الآخرين، لا سيما إذا كان أمراً بنّاء أي بصيص ضوء في العتمة التي غرقت الأحوال العربية في غياهبها، كما ينبع هذا الاهتمام العربي الواسع النطاق من الحقيقة المعاصرة المعاشة، وفحواها أن هذا الوطن قد أصبح الهدف الرئيس للتدخلات الخارجية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة بدرجات مختلفة من التوافق والتشاور الرسمي على الأقل. والغاية الجوهرية المعلنة من هذه التدخلات هو التصدي لعلاج هذه الآفات من الطغيان والإرهاب، وامتهان حقوق الإنسان، التي يعتقد أنها تسهم وتفاقم هذا الوضع الذي دفع بالعالم إلى شفير مخاطر جمة.

لذا فثمة ربط واضح في أذهان العرب بين ما برز حالياً بصفته أهم تدخلين من بين هذه التدخلات، هذا الصغير النطاق في لبنان، وذاك الجذري والشامل في العراق، ومهما اختلفوا في الجزئيات فإن هناك غاية جوهرية مشتركة تجمعهم، ألا وهي ترميم أو إصلاح أو إعادة بناء وصياغة الأنظمة الحاكمة التي تضعضعت إما بسبب الصراع والحرب أو جراء سوء سياسة الحكام في سدة السلطة.

ومن بين البلدان العربية قاطبة كان لبنان هو خير من يخوض مثل هذه التجربة ففي ظل تعددية سياساته التي يبرز بوضوح طابعها الطائفي الصراع، كان لبنان يتمتع بإرث ديمقراطي مرن رغم ما يشوبه من شوائب وأخطاء.

ولم يكن هذا التراث الديمقراطي اللبناني على علاته ليذعن للأنماط التسلطية السائدة في محيطه العربي، وذلك على الرغم من أن هذا البلد أيضاً كان ينزلق هو الآخر في هوة الاستبداد والعقلية التسلطية التي أورثته إياها سنوات متطاولة من الهيمنة السورية. ومع هذا كله فإنه في نهاية المطاف كانت تجاوزات سوريا وانتهاكاتها هي ذاتها التي فجرت هذه “الانتفاضة الديمقراطية”، علاوة على ما أعقب ذلك من بروز إرادة دولية تقودها أمريكا وفرنسا لدعم هذا التوجه متمثلة في لجنة ميليس للتحقيق.

وينظر إلى معرفة “الحقيقة” بشأن اغتيال الحريري على أنها حجر الزاوية في مشروع إعادة الإعمار برمته. وإلى الآن تجري الأمور على خير ما يرام، إلا أنه في تقريره الأولي الذي يتم إعداده ليصار إلى رفعه إلى الأمين العام للأمم المتحدة والذي سربت الصحافة البيروتية أجزاء منه يتشكك ميليس صراحة حول ما إذا كانت المؤسسات اللبنانية قادرة على النهوض بأعباء محاكمة وإدانة الجناة في هذه القضية. وهو لا يخفي مخاوفهم التي يرجع هو نفسه صداها: فالشهود يعيشون حالة رعب شديد من حدوث عمليات انتقام يقوم بها فلول النظام القديم الذي كانت تهيمن عليه سوريا.

ولكن التحديات التي لايزال ميليس يواجهها تتضاءل أمام التحديات التي تنتظره في دمشق. فهناك لا يتمثل التأثير المحتمل للحقيقة فقط في أثرها النموذجي، بل في حقيقة أن من المحتم لدمشق أن تصبح في خاتمة المطاف لب التحقيق ذاته بكل ما ينطوي عليه من عواقب. وإذا كان انسحاب الجيش السوري من لبنان- الذي تم تنفيذه تحت إشراف الأمم المتحدة- ضربة قوية للنظام البعثي السوري، فإن بمقدور ميليس أن يوجه إليه ضربة قاتلة. وهذا ما يعتقده كثير من السوريين وهذا ما يجعل مزيجاً من الإثارة والخوف يعم البلاد كافة.

ولا جدال في أن الرئيس السوري بشار الأسد يواجه خيارين صعبين، بين أن يتعاون مع ميليس وأن يتحداه. وتشير الدلائل إلى أنه يغير موقفه بين الخيارين على نحو مربك. وبالترحيب به في سوريا على نحو مفاجئ، يتخلى الأسد عما عارضه فعلياً حتى الآن لدواع تتعلق بالسيادة الوطنية. ولكن، وفي حال مضى ميليس قدماً وطالب باستدعاء مشتبه فيهم يشغلون مناصب رفيعة شأنهم في ذلك شأن نظرائهم اللبنانيين، و-في حال كانت سوريا مذنبة حقاً- قاد الأثر على نحو لا يرقى إليه الشك إلى دوائر السلطة القريبة للغاية من مواقع صنع القرار، فهل سيتخلى عن ذلك أيضاً؟

ولكن تحدي ميليس، وهو ما يلمح إلى أنه سيقوم بذلك، وتصويره وكل الإجراءات التي يقوم بها على أنها مؤامرة تتزعمها أمريكا ضد سوريا ذاتها سيبدو شبه انتحار. وستحيل هذه الخطوة سوريا إلى دولة منبوذة دولياً، وسيدفع أوروبا إلى تأييد فرض عقوبات اقتصادية عليها، وبدلاً من أن تهيج شعباً ساخطاً وضجراً في الأساس للدفاع الوطني عن النظام، تقنع هذا الشعب بأن حكومته تمثل المصدر الرئيسي للكوارث المتفاقمة التي يعاني منها، وستجعل من اغتيال الحريري الخطأ الفاضح الأبرز الذي يدفعون ثمنه.

وتنبع الإثارة التي يحسها الشعب، ولا سيما إثارة المعارضة وهي تفكر في أزمة الحكام السوريين، من احتمال رؤية البعض منهم ينال القصاص أمام محكمة دولية. وينبع خوف الشعب- حتى وسط المعارضة ذاتها- من الاعتقاد- وبفضل تركة الحكم البعثي- أن أزمة نظام ستتحول تلقائياً إلى أزمة وطنية وربما إلى حرب أهلية.

ويتعاظم ذلك الخوف الى حد النظر الى “ومن بعدي الطوفان” باعتباره الكرت المهم الأخير لدى بشار، وفرصته الوحيدة لإبرام صفقة وتسليم جميع مصادر القوة الاستراتيجية في لبنان والعراق وفلسطين والتي وفرت دائماً وسائل تعويق أو مساعدة الأغراض الأمريكية مقابل البقاء واستمرار السيادة في بيته الخاص، وإذا كان الشعب السوري ذاته قلقاً إلى هذا الحد، ألا يحق للعالم أن يكون قلقاً أيضاً؟ وهل سيتحول الأمر إلى عراق ثان كما حدث في تدخلها الحميد؟ وفي حال كان إبرام صفقة مثيرة للسخرية- في عهد حرية وديمقراطية بوش- مع لاعب ثانوي كالقذافي، ألا تقدم واشنطن على إبرام صفقة مماثلة مع بشار المتأزم من أجل مكافأة أكبر وفي قلب العالم العربي الاستراتيجي والعاطفي؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)