تزعم الإدارة الأميركية أنها <<الإطفائي العالمي>> المكلف إخماد اللهيب الذي يشعله <<الإرهاب الدولي>>. إلا أن المشاهد الماثلة أمامنا تؤكد أن الولايات المتحدة لا تفعل، منذ أن بدأت <<الرد>> على هجمات 11 أيلول، سوى إشعال الحرائق في ما تسميه <<الشرق الأوسط الكبير>>.
؟ تتوجه أفغانستان، غداً، إلى صناديق الاقتراع. إلا أنه من الواضح أنها انتخابات في ظل <<ملف مفتوح>>. صحيح، ربما، أن واشنطن لم يكن في وسعها إلا الرد في أفغانستان. إلا أن الصحيح، أيضاً، أنها اختارت رداً يقوم على نظرية <<بناء الأمم والدول>>. ولكن، منذ ذلك الوقت، يتبيّن أن جهد الحد الأدنى قد بُذل عسكرياً ومادياً. العلامة الأولى على ذلك أن قادة <<القاعدة>> و<<طالبان>> ما زالوا أحياء وأحرارا وناشطين برغم أن جورج بوش لم يعد يأتي على ذكرهم. والعلامة الثانية هي أن بؤر التوتر لم تخمد. والعلامة الثالثة هي الارتفاع الأسطوري في زراعة الأفيون. والعلامة الرابعة هي انحصار السلطة المركزية في كابول وبعض المدن، واستمرار نفوذ أمراء الحرب على حاله (إلا مَن كان منهم مؤيداً لإيران).
ستجري الانتخابات النيابية ولو متأخرة لكنها لن تغلق الملف. فالإنفاق في أفغانستان ضئيل، والتمايزات مستمرة بين الولايات المتحدة وحلفائها حول الدور المفترض ل<<حلف شمال الأطلسي>>. ومع أن البيئة الإقليمية ميالة إلى أن تكون إيجابية فإنها تشهد تصدعات. الحصيلة هي أن أفغانستان جرح نازف ببطء. لم تكرّر أميركا فيها ما فعلته بعد خروج السوفيات، إلا أنها، في المقابل، لم تكن على مستوى ما نسبته إلى نفسها.
؟ إذا كانت أفغانستان ملفاً اضطرت واشنطن إلى فتحه ولم تغلقه، فإن العراق ملف <<اختياري>> من الدرجة الأولى. لقد صدر قرار أميركي حر بالتوجه نحو الحرب والغزو والاحتلال. وها هي شرايين العراق مفتوحة. ها هو الدم يُغرق الشوارع. وها هي المحطات الأميركية تفشل، الواحدة بعد الأخرى، في وضع نقطة النهاية: تغيير الإدارة الكولونيالية، تحويل السلطة، الدستور الموقت، الانتخابات، الحكومة، كتابة الدستور... وما يصح على هذه المحطات يصح على ما يليها: الاستفتاء على الدستور بعد أقل من شهر، والانتخابات العامة أواخر السنة.
لقد بات واضحاً أن المواجهات ستستمر في كل وجوهها: المقاومة ضد الاحتلال، الممانعة ضد السلطة التي أقامها الاحتلال، الاقتتال الأهلي. ولم يعد سراً أن واشنطن لن تزيد عديد قواتها (إن لم يحصل العكس) وأنها مضطرة، بعد إعصار <<كاترينا>> إلى البحث في خفض التكلفة. مستقبل العراق غامض. ولكن أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بعيد لسنوات ضوئية عن التصورات الوردية الأميركية السابقة للحرب. إن وحدة البلاد في خطر، ووحدة الشعب في خطر، ووحدة عرب العراق في خطر. ويزداد الأمر حدة في أن السياسة الأميركية لا تحيط العراق ببيئة إقليمية مؤاتية. على العكس. لا مجازفة في القول، إذاً، إن الملف العراقي مفتوح.
؟ فلسطين ملف مفتوح منذ قرن وقد يبقى مفتوحاً لقرن. لا ذنب مباشراً لهذه الإدارة في استحضاره. لقد حاولت، في بدايتها، تجاهله ثم عاودت الاهتمام به. غير أنها، في الإحجام كما في الإقدام، بقيت شديدة الانضباط بالإيقاع الذي يريده أرييل شارون. ولقد حاول بوش الإيحاء بأنه يدعم التقدم نحو الحل عبر رعاية <<خطة غزة>> مع أنه يدرك تماماً أن الحقيقة هي أن هذه الخطوة هي في الاتجاه الآخر؛ الاتجاه الذي شجع عليه بإغداقه الوعود على شارون.
لا عنوان لما بعد غزة إلا تكثيف الصراع على الضفة. مَن لا يصدق ذلك فعليه ببعض المطالعة السريعة لوثائق إسرائيلية، ولتصريحات إسرائيلية (آخرها خطاب شارون في الأمم المتحدة)، ولبرامج حزبية وحكومية إسرائيلية. إن المستقبل القريب هو تصعيد المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في الضفة. والبديل المقترح من أميركا وإسرائيل هو اندلاع المواجهة الفلسطينية الفلسطينية في غزة (والضفة). إن الملف الفلسطيني مفتوح والولايات المتحدة تصب زيتاً على ناره.
؟ قرار واشنطن بفتح الملف اللبناني اتخذ في سياق السياسة الأميركية الإجمالية في المنطقة. لكن الحقيقة تقضي القول إن ممارسات سورية ولبنانية لعبت دوراً مساعداً لهذا القرار فجعلته أسهل مما يتصوره أصحابه. إن واشنطن هي المبادرة إلى إنهاء التوافق حول لبنان وإطلاق التجاذب حوله، وقد استفادت من أن الكثيرين <<لعبوا بين أيديها>> طمعاً أو لأنهم لا يعرفون ممارسة سياسة أخرى.
إن الملف اللبناني مفتوح. الأدوات الفاعلة فيه كثيرة بينها قرارات دولية تلقى إجماعاً (1595) أو تثير اختلافاً (1559).
الناظر إلى الوضع اللبناني يدرك أن ما من قوة داخلية قادرة على حسم الخلافات وإقفال الملف. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة ماضية في الضغط بمساندة أوروبية (فرنسية تحديداً) لا تملك أجوبة لا على الوضع اللبناني الراهن، ولا على الأسئلة التي ستولد من رحم التطورات. أما العالم العربي فله، في أحسن الأحوال، دور الكومبارس. لا وجود، في الأفق اللبناني، لاستقرار مقنع يكون بديلاً عن <<الاستقرار المكلف>> الذي انتهى.
؟ تحضّر واشنطن لفتح الملف السوري. تحث السير نحو ذلك على وتيرة عمل لجنة التحقيق الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري. الأسباب الدافعة لذلك كثيرة وتطال القضايا الإقليمية الرئيسية إلا أن المدخل اللبناني يبقى الأكثر أهمية لأنه يتضمن احتمال <<الجرم المشهود>>. وليس سراً أن بيروت تضج بأخبار القرار الأميركي المتخذ والمستهدف تغيير سياسة النظام السوري تمهيداً لتغييره، أو الإقدام على التغيير الفوري مباشرة.
ليست العمليات العسكرية الكبرى غربي العراق بعيدة عن أن تكون رافداً متصاعد الضغط يلاقي الضغط السياسي المتزايد من لبنان. إلا أن أكثر الناس قلقاً من هذا الاحتمال أو استبشاراً به لا يملك كلمة واحدة يقولها عن احتمالات الوضع بعد أي <<نجاح>> أميركي محتمل. فالقرار، كما يقدم، هو فتح للملف على... المجهول. والمجهول، في هذه المنطقة المنكوبة، يعني الأسوأ لأنه، بالضبط، يعني الفوضى والاضطراب. ولا يحتاج المرء لأن يكون عالماً بالجغرافيا السياسية حتى يدرك آثار انفتاح الملف السوري على المنطقة العربية كلها وعلى لبنان وفلسطين والأردن والعراق تحديداً. إن أي صيغة هشة للاستقرار اللبناني، وليس وارداً سوى صيغة هشة (هذا في أحسن الأحوال)، قد لا تستطيع الصمود أمام رياح تهب عليها من الشرق.
إن أخذ هذه الملفات المفتوحة، أو القابلة للفتح، كلاً على حدة، يرسم صورة مرعبة. فكيف إذا أدخلنا في الاعتبار أننا، فعلياً، أمام أوان مستطرقة وأن كل أزمة قابلة لتزويد الأخرى بالوقود.
إن <<الإطفائي>> الأميركي هو المُشعِل الأول للحرائق. يمكن تسمية ذلك، انسياقاً مع أطروحات <<المحافظين الجدد>>: الفوضى البناءة، أي الفوضى التي لا شاطئ أمان تنتهي فيه إلا الشاطئ الأميركي.